ها قد عاودت آلة الحرب في سوريا نشاطها من جديد، كأن كل ما مرّ على هذه البلاد لم يفد بتعليم أحد تلك الحكمة القائلة بأن الحروب تُخرج الجميع خاسرين. التطور الجديد هو انقضاض فصائل المعارضة السورية و”هيئة تحرير الشام” على معظم مدينة حلب وريفها، إضافة إلى إطباقها السيطرة على محافظة إدلب وبعض النواحي من ريف حماة.
التقدم السريع كان مفاجئاً للقوات الحكومية، فيما لم يفد خط الدفاع العسكري الذي أشاده الجيش السوري غرب مدينة حلب كثيراً، بل سقط سريعاً ومعه ألوية وأفواج عسكرية سارعت بالانسحاب والتقهقر بدل القتال.
في الواقع، إن الدخول السريع إلى أماكن سيطرة الحكومة يثير الالتباس، سواء من حيث توقيته وسرعته، أم من حيث مخاطره الجمّة. من ناحية التوقيت والسرعة، بدا الهجوم مصطنعاً ومنسقاً مع دول إقليمية، وتحديداً مع تركيا الراعية لفصائل المعارضة المتنوعة المتمركزة في مدينة إدلب ومحيطها. يمكن لتركيا أن تصنف “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) كمنظمة إرهابية في قانونها الداخلي قدر ما تشاء، لكن الجيش التركي و”الهيئة” يتجاوران ويتعاونان في السيطرة الميدانية على محافظة إدلب، كما يتبادلان المعلومات الاستخباراتية والتنسيق الميداني. كذلك، أتى الهجوم السريع بعد محاولات عديدة من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لإجبار الرئيس السوري، بشار الأسد، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. عاند الأسد الحل الدبلوماسي، فكان “الحل” الميداني هو الخيار الجديد.
الهجوم المنسق مع تركيا أتى في اليوم التالي لإقرار اتفاق وقف إطلاق للنار بين إسرائيل و”حزب الله”. بدا التوقيت ملتبساً ومريباً، إذ توقفت الحرب فجأة في لبنان واندلعت بعد سويعات قليلة في سوريا. من المؤكد أن الحرب في لبنان دفعت المنظمات الموالية لإيران، وتحديداً اللبنانية منها، إلى تخفيف حضورها العسكري والأمني في سوريا والتوجه إلى لبنان. كما أن الضربات الإسرائيلية المستمرة للمصالح الإيرانية في سوريا طوال الأشهر الماضية، جعلت هجوم فصائل المعارضة أكثر سهولة.
تعرف المعارضة السورية، كما يعرف معظم السوريين، أن الجيش الحكومي لا يمكنه ردع معارضيه بمفرده، دون الاتكال على القوى والمنظمات والدول الأجنبية، وتحديداً تلك الموالية لإيران أو روسيا. ما أن تراجعت بعض تلك القوى، سواء بسبب الحرب في لبنان أو بسبب الهجمات الإسرائيلية، حتى بات الجيش السوري لقمة سائغة وهدفاً سهلاً لمعارضيه. لم يُبلِ الجيش السوري البلاء الحسن في الأيام القليلة الماضية، فخسر ثاني أكبر مدينة سورية ومركزها الاقتصادي، ومساحات واسعة من الأرض عمل بشق النفس على استردادها في السنوات الماضية.
أما مخاطر الهجوم، فهي الخلفية الثأرية التي يمتلكها المهاجم. يقود أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، الحرب، ويقدم نفسه في لباس أنيق وخطاب مدني حديث، ويصدر البيانات الداعية إلى “التسامح مع السكان وحماية الناس”، كأنه منظمة مجتمع مدني تخشى حقيقة على حياة الناس وحقوقهم. الخطر الحقيقي هو أن يكون ما وراء هذا القناع المصطنع خلفيات متشددة، تنتظر الانقضاض على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، تثبيت قواعد حكمها الجديد، ومن ثم الاقتصاص من المعارضين ومن الأقليات الدينية والعرقية.
في حلب، كما في محافظة حماة وغيرها، توجد جماعات كردية كما أقليات دينية متنوعة، وهي كلها ترى نفسها على نقيض سياسي وإيديولوجي تام مع “هيئة تحرير الشام” وبعض الفصائل المتشددة القادمة معها. وفي اليوم الخامس على بداية الفصل الحالي من الحرب، تقدمت القوى المعارضة إلى بعض أماكن سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وتحديداً في بلدة تل رفعت الاستراتيجية التي تركها سكانها المحاصرين حالياً والذين ينتظرون ممراً آمناً لإخراجهم إلى مدينة حلب ومنها إلى منطقة شرق الفرات مع سكان الحيين الكرديين في حلب؛ الشيخ مقصود والأشرفية. هذا التقدم يجعل من مخاطر اندلاع اشتباكات واسعة النطاق بين الطرفين ممكناً، إلا أن ذلك سيضر ليس بوحدة سوريا وأمنها فقط، إنما بأعمال المعارضة بشكل أساسي.
إن لم تقبل “الهيئة”، ومن خلفها تركيا، بتقاسم “كعكة” النفوذ والسيطرة على مدينة حلب مع “قسد”، واندفعت إلى تسعير الحرب معها، سيكون مصير المعارضة بذاتها الانقسام والتشظي، كما إعادة فتح المجال أمام الحكومة السورية للعودة إلى المراكز التي كانت تسيطر عليها. إن توسيع دائرة النزاع في حلب وأطرافها سينتج عنه مجازر وممارسات شنيعة ذات خلفية عرقية وطائفية ليست في مصلحة أحد، باستثناء الجانب التركي الباحث عن دور أكبر له في الجغرافية السورية. من هنا بالذات، قد تكون مصلحة المعارضة السورية التي أحرزت تقدماً مهماً في الأيام القليلة الماضية، البحث عن تسوية مع “قسد” فتأمن ظهرها في مدينة حلب وتتجه لتوسيع بقعة سيطرتها باتجاه مدينة حماة. إن التعاون، ولو الظرفي بين “الفصائل المسلحة” و “قسد”، سيساهم في جعل الحل السياسي في سوريا أكثر قرباً وإمكانية. أما الخيار الآخر، أي خيار الحرب الشاملة فلن يكون من مصلحة أحد من القوى السورية الفاعلة في الميدان، خاصة وأنه يجعل من المعارضة تقاتل على جبهتين ويمكن أن تخسر في كلتيهما.
كذلك الأمر، يبدو الهجوم على حلب وريف حماة فرصة مهمة لقوى المعارضة و”الهيئة” لتحريك المياه الراكدة منذ بضع سنوات في سوريا، والتقدم الميداني والسيطرة على أماكن جديدة، كما يظهر كمحاولة تركية لزيادة نفوذها على الرقعة السورية. لكنها، أيضاً، تحمل في طياتها مخاطر جمّة على الأقليات الدينية والعرقية التي قد تدفع الثمن ما أن يستتب الأمر للمهاجمين، بعدما ترك الجيش السوري والفصائل الإيرانية مراكزهم وهرولوا نحو دمشق.
هذه التطورات المتسارعة تحمل معها إشارات غامضة ومتناقضة، إذ تعيد المشهد السوري إلى نقطة الغليان التي ظن الكثيرون أنها قد هدأت بعد سنوات طويلة من الدمار والدماء. فبينما تتزايد الأطراف الدولية والإقليمية في لعب أدوارها المشبوهة على المسرح السوري، تتعقد الخريطة السياسية والعسكرية، ويتحوّل الميدان إلى رقعة شطرنج تُحرَّك فيها البيادق وفقاً للمصالح الإقليمية.
وسط هذا المشهد، تبدو الأوضاع الإنسانية في حلب وما حولها أكثر مأساوية من أي وقت مضى. الأهالي الذين اعتادوا تبدل الرايات والوجوه المقاتِلة، يجدون أنفسهم مرة أخرى بين مطرقة القصف وسندان النزوح. وكأن معاناتهم المستمرة باتت تفصيلاً صغيراً في لعبة حملةِ السلاح. فقد أُجبرت آلاف العائلات على مغادرة منازلها بحثاً عن ملاذات آمنة، لتجد نفسها أمام تحديات البرد والجوع وانعدام المأوى، في ظل شتاء قاسٍ وأوضاع إنسانية متردية.
على الجانب الآخر، يبدو أن الصراع الدائر الآن ليس فقط معركة عسكرية تقليدية، بل هو اختبار جديد لموازين القوى الإقليمية والدولية. تركيا، التي تراهن على تعزيز نفوذها عبر دعم فصائل المعارضة، تبدو مصممة على فرض معادلة جديدة في الشمال السوري، بينما تراقب روسيا وإيران الموقف بحذر، محاولتين الحفاظ على مكاسبهما في وجه هذه التغيرات السريعة، ولكن دون جدوى حتى الساعة.
أما الولايات المتحدة، التي تراقب الأحداث من بعيد، فتبدو منشغلة بترتيب أوراقها في ملفات أخرى، وتأمين انتقال سلس للسلطة في البيت الأبيض، مكتفية بإصدار بيانات تنديد أو شجب، بينما يواصل اللاعبون المحليون والإقليميون تصفية حساباتهم على الأرض السورية وفوق جثث شعبها.
يطرح المشهد السوري الحالي أسئلة جوهرية حول مستقبل البلاد: هل تعود سوريا ساحة لتصفية الحسابات الدولية دون أي اعتبار لوحدة أراضيها وشعبها؟ أم أن هذه الجولة الجديدة من الصراع ستفتح باباً أمام تسويات قد تكون أقل تكلفة من استمرار الحرب؟ الأكيد أن الإجابة على هذه التساؤلات لن تأتي قريباً، وما بين كل سؤال وجواب، تظل معاناة الشعب السوري هي الثابت الوحيد في معادلة متغيرة لا تعرف النهاية.. أو حتى الرحمة.