للمرء أن يتساءل: إذا كان مسار السوسيولوجية الدينية في سوريا معقد جداً يصعب فيه تهيكل أطر أصولية موحدة أو حتى علمائية مؤسساتية ناظمة (كالأزهر مثلاً)، نظراً لتعقد الخرائط الطائفية والتصحّر في سوريا الذي يمنع أساساً تجذر تراث المؤسسة، لماذا إذاً كل هذه الأصوليات التي ليس فيها نوع إلا وخبرته البلاد؟ إذا كان من الصعب تقديم إجابة واحدة وجامعة عن مثل هكذا سؤال، فضلاً في عجالة كهذه، فإنني سأتناول جانباً منها بما يسمح به هذا السياق. والحال، لم تشهد المجتمعات السورية، بطوائفها وقومياتها كلها، إخراباً وتخريباً لهياكلها الثقافية والسياسية العامة أكثر مما أحدثته عواقب وجود وصراعات الأصوليات الإسلامية مع «أشقائها» من البعث في النظام السوري. وهذا لا ينطبق على السنوات الأخيرة التي أفرزتها الآلام السورية، بل في صلب بدايات تشكل معالم الدولة الحديثة أثناء الوجود الفرنسي في البلاد، حينما بدأت معالم أدلجة الفضاءات السياسية في سوريا بأرواح تيارات وأحزاب تطوف إما يميناً نحو الإسلام وإما يساراً نحو العروبة، هكذا لتقع مجتمعاتنا منذ ذلك الحين وإلى اليوم ضحية وأسيرة بين رئتين (رئتي الخراب السوري) ما زالت تتنفس من خلالهما: الأولى، الأصولية الإسلامية، التي جسدتها بعض تيارات الإسلام السياسية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون؛ والثانية، القومية العربية السياسية التي جسدها حزب البعث. أما عن خيار ثالث يتحدث عن بناء دولة حداثية، فكلا هاتين الرئتين اتفقتا منذ بدايات التشكل على رميه بكونه عدواً يتوجب محاربته.
ليس هناك مبالغة في القول أن من أراد فهم معالم خرابنا اليوم، عليه تفكيك هاتين الرئتين واستطالاتهما الثقافية المرضية التي خرج كل منهما من رحمها. والخروج من هذا الرحم المشترك هو الذي يجب أن يدعونا لمعاودة التفكير بأن العداء بينهما لم يكون على الأيديولوجيا، بمقدار ما كان على السلطة، هو الذي يجب أن يدعونا للقبض على آليات المعارك بينهما بأنها لم تكن على الإطلاق حول الاختلاف في بعث أصول الإسلام والعروبة، بمقدار ما كانت حول الاختلاف في تفسير هذه الأصول. لنتذكر هنا أن العروبة التي تنادى رجال البعث السوري على بعث روحها لم تكن في نهاية الأمر سوى إحياءً «دينياً إثنوياً» بنحو عنصري، يبتعد قليلاً ويقترب كثيراً من بؤرة جهد الإحيائيين من إخوان سوريا (وقد برهن البعثيون في توجههم هذا من خلال ضدية وقفت في جوهرها موقفاً معادياً ومشككاً بالأقليات الإثنية غير العربية وتجاه الجماعات الدينية غير الملتزمة بمنطق الدوغما العروبية أو الدينية الجمعية). من هنا، فإن إخوان سوريا، وعلى مدار تاريخهم، سواء في سوريا أو خارجها، لم يجسدوا سوى انعكاس الذات الإخوانية في الذات البعثية، كما أنّ صراعهما الذي ساهم في تخريب الثقافة والاجتماع السوري لم يكن سوى صراع الذات في ذات الغير.
من هنا يصح القول بأن كل الأصوليات الشيعية والسنية التي شهدتها سوريا في سنواتها الأخيرة، والتي تقف، وستقف، حائطاً منيعاً أمام مستقبل سوريا، تعزى تماماً إلى هذه الأرض الخصبة التي ساهم كل من البعثية والأصولية السورية على مدار تاريخهما في زرع بذورهم التأزمية فيها. إنها البذور التي نحصد نتائج نضجها الكارثية اليوم رغم أنف «ربيعنا» السوري، والتي شكلت مصدر إغراء لكل أصوليات الأرض، فتحولت سوريا رمزياً إلى مسرح لـ«الهجرة» بكل ما يعنيه هذه الدال ضمن مدلولاته الأصولية الحديثة. من هنا لا نستغرب الجاذبية الكبرى التي شكلها هذا المسرح الجهادي السوري، أرض الهجرة، أمام قوى أصولية هائلة: هجرات أصولية سنية مدعومة من أطرف إقليمية عديدة بغية محاربة النفوذ الإيراني، وهجرات أصولية شيعية مدعومة خاصة من البعث السوري ورأس الأفعى الأصولية في المشرق: طهران. وللأسف ما زالت سوريا اللادولة تعاني إلى اليوم من أنماط الهجرات الأصولية هذه، وحتى بعد أن هدأ أوجها، لتبقى بالتالي سوقاً أصولية كبرى يُباع ويُشرى فيها كل شيء إلا «المعنى السوري» الوطني. طبعاً إنّ غياب المعنى الوطني الحداثي، والذي ساهمت في وأده سياسات النظام السوري وأشقاؤه من الأصوليين، يمثل السبب الرئيس لمواسم الهجرات الأصولية، وبالتالي لامتلاء سوريا بـ«المهاجرين في سبيل الجهاد».
وهذا بالضبط ما يسوقنا إلى ذكر سمتين جوهريتين تميزت به المسارات الحركية، لا الأيديولوجية، للأصوليات السورية: الأولى، إعادة إنتاج «فكر الهجرة» الأصولي إلى سوريا بما يتوافق وآليات السوق الديني الهوياتي وذلك بغية إعادة هيكلة الطائفية والطوائف بصيغ جديدة، لكن أصولياً (وخاصة حينما وجدت القوى الأصولية مناخات دولية وإقليمية هيأت لها رأس المال هناك، بل ودعمتها في سبيل تأسيس هويات هوائية طائفية). وللأسف، ما زال مشهد الإسلام السياسي السوري يشهد على هذا حالياً، طبعاً بفضل سواعد القوى الأصولية السنية والشيعية التي تهاجر إلى سوريا في سبيل الطائفة، أو قل دفاعاً عن «مقدس الطائفة» وحلقومها؛ وهو الأمر الذي وضعنا، من جهة، أمام تجدّد الصراع المخيالي للهويات الدينية، ومن جهة أخرى، أمام إعادة إنتاج لصيغ الإسلاموية، مُقادةً ومُغلفةً بأسوار الطوائف لا الدولة.
السمة الثانية هي قدرة الأصولية على الانتشار الأفقي الهائل وفق مسارات تتجاوز خطوط الجغرافية التقليدية والبنى الجيو-بوليتيكية للدولة. ومثل هذا الانتشار يؤكد تماماً على انعدام، بل واستحالة، مركزية أصولية ما يمكن أنْ تتمركز حولها الحركات الجهادية. من هنا فإن التساؤل الذي بدأنا به هذه المادة حول مسار السوسيولوجية الدينية في سوريا الذي يغيب فيه إنتاج مؤسسات دينية مركزية منتظمة يجسد أحد الأسباب التاريخية في تفريخ واستقبال كل هذا الكم من الأصوليات. وعموماً، فإنّ الافتقار إلى المركز هو الذي يسمح للأصولية لا أنْ تصعد في الدول المصدرة فحسب، بل يكسبها القدرة الأفقية كذلك لأن «تهاجر» إلى أهدافها خارج نطاق الرحم الذي أولدها (الأصولية الشيعية لحزب الله، مثلاً، أو داعش أو «النصرة السورية» التي استوحت ولاءها من الجبال الأفغانية). وبالفعل، هذا ما يسمح حقاً للتأكيد على التعددية المركزية polycentrism في الأصوليات السورية التي تتجلى في تعددية مراكز قواها ودعمها دولياً على المستوى المالي وبالعتاد البشري، كما لو أنها شبكات لا تدار من مركز محدد epicenter بل من فضاءات سيّالة ما فوق الدولة.
جغرافية الأصولي جغرافية شائكة ومعقدة، ومن الخطأ المنهاجي التعامل معها وفق مناظير ثابتة ودائمة. إننا في سوريا أمام «ضديات» أصولية تقف كسد منيع في مقابل حتى مفهومة الدولة – أصوليات تستلهم هواءها المقدس من خارج الدولة وضد الدولة. من هنا لا نستغرب امحاء مفهوم حقيقي حداثي للدولة عند أغلب الهجرات الأصولية التي تهاجر إلى سوريا في سبيل مقدس آخر، مقدس خرائط الطوائف المخيالية. وهذا كله يعيدنا، كما أسلفنا إلى جذور الإشكال السوري التي قبعت في يوتوبيات البعثية والأصولية، والتي نحصد اليوم خرابها، بل وفشل مشاريعها الهوائية الذريع الذي منيت به: فلا الأولى استطاعت الوصول إلى أحلامها الإسلامية المتخيلة في تشكيل ولو دويلة إسلامية، ولا الثانية حققت بعثاً ما لأيّ من أهداف البعث الذي أسس مساره الأيديولوجي بناء عليها.