ليس من السهل على شعوبنا قبول ما يحدث في السعودية بسهولة، وليس من السهل على هذه الشعوب أن ترى فيما يحدث في بلاد الحرمين والكعبة الشريفة وقبر الرسول دخولا ضروريا في الزمن النيوليبرالي الحالي، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، إذا ما أرادت المملكة العربية السعودية أن تحجز لها مكانا مرموقا في الشرق الأوسط الجديد. ليس من السهل ذلك على شعوب العالم العربي، خصوصا شعوب الدول التي كانت ذات يوم توصف بالحضرية، كمصر وبلاد الشام والعراق، والتي فتكت بها، حرفيا، الوهابية التي صدرتها المملكة العربية السعودية بمثابرة، تحسب لها وعليها، إلى مجتمعات هذه الدول منذ ما يعرف ببداية الصحوة الإسلامية التي بدأت نهاية سبعينيات القرن الماضي؛ ثم ها هي تتنصل منها نهائيا في خطوات بالغة السرعة تمنع عن هذه الشعوب استيعاب ما يحدث، فلا تجد أمامها سوى المزيد من التمسك بأذيال ما تبقى من تلك الوهابية لديها.
العلاج بالصدمة، هو ما يمكن أن نطلقه على الانفتاح المباغت في السعودية، ذلك أن ترك الأمر ليأخذ مساره التاريخي الطبيعي في التغيير سوف يستغرق زمنا أطول بكثير من زمن زرع الفكر الوهابي والأصولي في هذه المجتمعات، الخراب أسهل بكثير من البناء وأكثر سرعة، والوقت لا يسمح بالتأني والبدء بالتغيير خطوة وراء خطوة، فالمتغيرات العالمية سريعة، والقرار بالشرق الأوسط الجديد، يبدو متخذ منذ ما قبل كلام نتنياهو عنه في الأمم المتحدة قبل أشهر بكثير. حرب غزة كانت البداية، وما يحدث الآن في بلاد الشام (لبنان وسوريا والعراق) هو استكمال لما تم البدء به في غزة. سيكون تطبيع الجميع مع دولة الكيان هو البداية، بعد ترتيب المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الكبرى اللاعبة في ملفات الشرق الأوسط (إيران وتركيا على وجه الخصوص) وطبعا أمريكا والاتحاد الأوروبي. وفي هنا ربما تجدر الإشارة إلى أن ما يحصل في السعودية سوف يحصل ما يشبهه قريبا في إيران، أو لنقل إن إيران سوف تستعيد حرياتها الاجتماعية قريبا. لن تستطيع إيران أن تنأى بنفسها عن التغيرات المجتمعية إن كانت تريد لها مكانا أيضا في الشرق الأوسط الجديد. هذا منطق التاريخ من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما يحدث في إيران منذ وفاة رئيسي الغامضة ثم مقتل إسماعيل هنية في قلب طهران، ولاحقا الانكشاف المروع لكل ما يتعلق بحزب الله وحركة حماس، وهما الذراعان العسكريان الأكثر أهمية لولاية الفقيه وللسياسة الإيرانية، وانكشاف التوزع العسكري الإيراني في قلب سوريا، والصمت الكامل للنظام السوري وللعرب عموما عن كل الارتكابات الإسرائيلية في الداخل السوري، هذا كله ينبئ بفصل جديد في العلاقة العربية الإسرائيلية وتراجع دور إيران وخسارتها للكثير من مصالحها مالم تبدأ هي أيضا بالدخول في زمن النيوليبرالية سياسيا واقتصاديا، واجتماعيا بالدرجة الأولى.
لكن ماذا بشأن الشعوب التي انقسمت، حسب انتمائها الطائفي، بين الوهابية وبين الفكر الفقهي الشيعي، وتحولت خلال العقود الماضية إلى شعوب أصولية تنتمي إلى هوياتها الدينية الأصولية بعد أن تخلت عن إسلامها المعتدل الذي كان سائدا حتي ما بعد منتصف القرن الماضي، وبعد أن استطاعت النظم المستبدة التي حكمتها أن تلغي كل ملمح للهوية الوطنية والمواطنة؟ ماذا بشأن أجيال نشأت على ثقافة التحريم والتحليل، وعلى ثقافة الموت ضد الحياة وضد الفنون وضد الجمال، ماذا بشأن كل هذه القباحة التي خلفها الفكر الوهابي والإخواني والأصولي في مجتمعاتنا؟ هنا لا بد من التركيز في هذا السؤال عن مصر بالتحديد التي نالت الحصة الأكبر من ذلك الخراب الديني الذي ما زال متجذرا في كل مفاصل المجتمع المصري بما فيها المفاصل الإدارية والاجرائية اليومية؛ والتي يبدو أنها تزداد شراسة إثر شعورها أن البساط قد ينسحب قريبا من تحت أقدامها لصالح عودة الاعتدال واستعادة الحريات المجتمعية. إذ يبدو من الغريب على بلد عظيم كمصر أن تمنع الرقابة فيه مثلا أفلاما سينمائية مصرية من العرض بذريعة مسها بقيم الدين، وهو ما لم يحدث مطلقا في تاريخ السينما المصرية، وأن يندرج ذلك تحت بند (الحسبة الفنية) كما أسماها المصريون، بعد أن تم القضاء المبرم على (الحسبة) في السعودية بلد المنشأ، وعموما هذا ليس سوى بداية النهاية (هذا رأي شخصي أيضا) لتحكم النزعة الدينية السلفية والأصولية في المجتمع المصري، هذا ليس سوى (فرفرة الذبح الأخيرة)، قبل أن تبدأ مصر هي أيضا بالتخلي عما علق بها، وإن كان المجتمع المصري الغارق في أزمات معيشية طاحنة وانقسامات طبقية باتت بالغة الحدة سوف يصارع كثيرا قبل التحولات القادمة، إذ أن وجود الأزهر كمؤسسة دينية راسخة ومتجذرة فيه مع تجذر الفكر الإخواني الذي نشأ في مصر، خصوصا لدى بقايا الطبقة الوسطى، مع البراغماتية الدينية التي اعتاد عليها المصريون في تسيير شؤون حياتهم، سوف يجعل من التخلص سيطرة الفكر الوهابي ليس بالهين. خصوصا وأن ثمة انقسامات مهولة حاليا تفضحها وسائل التواصل مع كل مناسبة أو مهرجان فني في مصر وتظهر التناقضات المهولة بين شرائح المجتمع فيما يخص الحريات الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: الهزيمة وهذه الاتهامات والشروخ في المواقف
في ليبيا أصدر وزير الداخلية قرارا بمنع الاختلاط في كل مكان وبفرض الحجاب على النساء، تبدو قرارات كهذه ضمن المتغيرات الحاصلة هزلية ومدعاة للسخرية، لكن في بلد مثل ليبيا تسرد فيه هوية القبيلة والعشيرة ويعاني انقسامات رهيبة وحروب متواصلة بعد 2011 يمكن لقرار كهذا أن يطبق بسهولة وأن يمر دون اعتراضات حقيقية. ذلك أن ليبيا تعيش زمن اللادولة حاليا أو الدويلات المتعددة بمجتمع مفكك غادرته معظم نخبه. ينطبق هذا أيضا على العراق الذي أراد بعض نوابه قوننة زواج القاصرات. تخيلوا؟ أما سوريا فالحرب تركت فيها نتائج مرعبة من التطرف الاجتماعي في مناطق سيطرة النظام: تطرف ديني مزيد من التشدد الاجتماعي يقابله انفلات في الحريات الجنسية والتعاطي وما إلى هنالك من نتائج الحروب؛ بينما في إدلب الواقعة تحت سيطرة الميليشات الإسلامية المدعومة من تركيا فمسألة التشدد الديني هي منهج حكم وطريقة حياة مفروضة بالقوة على سكان الشمال. هذا الواقع ينطبق أيضا على اليمن وعلى السودان؛ بينما تبدو تونس كما لو أنها تتخلى شيئا فشيئا عن إرث الحبيب بو رقيبة العلماني لصالح التشدد الديني الذي يدعمه الاستبداد الجديد وفي الجزائر وصلت الأحكام الأخلاقية إلي الثقافة والمثقفين وكذلك في المغرب. باختصار: باستثناء الخليج العربي الذي ينفض عنه ما فرضه على بلادنا فإن باقي الدول العربية تعيش زمن (الردة الحضارية) بكل معني الكلمة. دول مستبدة وفاشلة ومجتمعات فاشلة ومهزومة وغارقة بأزمات معيشية طاحنة وحروب لا تتوقف. كيف إذا يمكن لشعوب هذه الدول تقبل ما يحدث في السعودية بوصفه أمرا ضروريا وعاديا؟ كيف ستتقبل هذا البذخ للترفيه الذي يحدث على جثث المجتمعات التي فتكت بها الوهابية المتحالفة مع نظم حاكمة مستبدة وجدت في الفكر الديني المتشدد خير حليف لها؟ ليس بالأمر السهل لدى شعوب مازالت أفرادها تقتطع من لقمة عيشها من أجل فريضة الحج إلى بلاد الحرمين التي طافت بها سيقان جنيفر لوبيز الباذخة قبل أيام قليلة.