خاص – حسن العلي / دير الزور
لعقود طويلة، شهد العديد من المناطق في البلاد اقتتالات عنيفة بين العشائر المتنازعة. ورغم محاولات السلطات المحلية وجهود المجتمع المدني لإنهاء هذه النزاعات، فإن غياب أي حلّ جذري للأسباب الكامنة وراءها أدى إلى استمرار معاناة المدنيين، وخصوصاً النساء والأطفال الذين يتحملون وطأة العنف والانتهاكات بشكل مباشر، ما يهدد حياتهم.
تقول نصرى المجول، وهي تتحدر من قرية صغيرة تتبع لبلدة النشوة في الحسكة، لـ”963+”: “كنت أعيش حياةً هادئة مع عائلتي في قريتي المتواضعة. وتغير كل شيء عندما اندلع نزاع بين عشيرتنا وعشيرة أخرى مجاورة، فبدأت المواجهات وتصاعدت الاشتباكات، وسرعان ما تحولت إلى اقتتال عنيف بالأسلحة الثقيلة”.
تضيف المجول واصفةً الأجواء التي سادت في تلك الفترة: “كان الرعب يسيطر علينا. وكان الرصاص يتطاير في كل اتجاه، وكانت القذائف تسقط على منازلنا. لم نشعر بالأمان داخل بيوتنا، فكيف نشعر بالأمان إذا خرجنا منها؟ ومع تفاقم الوضع، الخيار الوحيد المتاح لنا كان الفرار من البلدة، وترك منازلنا وممتلكاتنا خلفنا”.
حجة الإغاثة
في أثناء نزوحهم إلى مخيم في مناطق بالشمال السوري خاضعة لسيطرة الفصائل المدعومة من تركيا، واجهت المجول وعائلتها تحديات جديدة. تروي: “كان الأطفال الأكثر عرضة للخطر، وشهدنا بأم العين كيف تعرض بعضهم للاختطاف من مجموعات تمارس الابتزاز المالي. كان خوفنا على أطفالنا يقضّ مضاجعنا طول الوقت”.
لم تقتصر المعاناة على خوف الاختطاف، بل تعرضوا أيضاً للتحرش ومحاولات الاعتداء الجنسي، اقترفها بعض المدعومين والعاملين في المخيم. تقول: “كانوا يبررون تصرفاتهم بحجة الإغاثة وتقديم المساعدات الإنسانية، لكن ذلك لم يكن إلا غطاء لاستغلال ضعفنا”.
ما يثير دهشتها هو عدم تدخل السلطات المحلية في البلدة لوقف النزاع المسلح حينها، وكذلك غياب أي تدخل من السلطات الموجودة حالياً في المخيم لحماية النازحين. وبرأيها، “لم يقدم لنا أحد الحماية من الابتزاز والتحرش، ولم نحصل على الدعم الكافي، باستثناء بعض المنظمات الإغاثية التي وفرت لنا مأوى وطعاماً، إلا أن هذا لا يمنع استمرار معاناتنا وقلقنا على مستقبلنا، ونحن نريد العودة إلى منازلنا، لكن كيف يمكن أن نعود في هذه الظروف؟ إننا نحتاج إلى الأمان والدعم لنستطيع بناء حياة جديدة”.
يكاد لا ينتهي اقتتال عشائري إلا ليبدأ آخر، خصوصاً في مناطق الجزيرة السورية، ذات الطابع العشائري البحت. وبعض هذه النزاعات يعود إلى حدث حصل قبل عشرات الأعوام، وبعضه ينتهي بعقد صلح وترحيل أحد الأطراف خارج البلدة.
يفاوضوننا على عرضنا
كانت ميساء الخاطر، من سكان بلدة الصور شمالي دير الزور، تعيش مع عائلتها في قرية النملية التابعة لناحية الصور، إلى أن نشب خلاف بين عشيرتها وعشيرة أخرى من أبناء الأعمام، بسبب ثأر قديم مضى عليه أكثر من 30 عاماً. سرعان ما تطور الخلاف إلى اشتباكات عنيفة استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة.
وجدت ميساء نفسها وأطفالها في قلب النزاع، من دون أن يكونوا طرفاً فيه. استمرت الاشتباكات ثلاثة أيام، وكانت أصوات الرصاص والقذائف ترعبهم. على الرغم من تدخل بعض العشائر المجاورة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) لفض الاقتتال، لم يتحسن الوضع، ما اضطرهم إلى ترك البيت. كان الأمر صعباً جداً، لكن لم أمامهم لديهم خيار آخر.
فرت ميساء وأولادها إلى مناطق غرب الفرات الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية، بينما بقي زوجها في البلدة. بعض الرجال فروا إلى دول أخرى بسبب ملاحقتهم أمنياً وعشائرياً. تعرضت ميساء وأطفالها لمضايقات عديدة في مدينة الميادين، حيث تعرضوا للتحرش والاعتداء من بعض عناصر “الدفاع الوطني” أو من أشخاص مدعومين. وعلى الرغم من تغيير مكانهم عدة مرات، فقد واجهوا نفس المشاكل. حاولت ميساء مراراً التوجه للأمن وتقديم شكاوى حول ما يتعرضون له من عنف وتحرش، لكن للأسف، لم يكن هناك من يستمع إليهم. بعض الجهات الأمنية طلبت منهم تقديم نفس الأمور التي جاءوا من أجل الشكوى منها.
تقول ميساء: “لم نتلق دعماً حقيقياً، ولا نرغب في الحصول على دعم من جهات تفاوضنا على عرضنا، ونأمل في العودة إلى منازلنا ليعيشوا حياة تحفظ كرامتنا وتجمع شملنا، لكن هذا الأمل يبدو مستحيلاً ما لم يكن هناك حل جذري وصارم للنزاع العشائري الذي أودى بحياة أكثر من 8 قتلى من أبناء الأعمام منذ اندلاعه قبل أعوام وحتى يومنا هذا”، مضيفةً: “معاناتنا ليست مجرد أرقام أو أحداث عابرة، إنما بل هي قصص إنسانية تتطلب التفاتة جادة من المجتمع المحلي والدولي، لإيجاد حلول مستدامة تضمن لنا الأمان والاستقرار”.
المطلوب آلية فعالة
يرى علي العبدالله، وهو ممثل عن منظمة “إنصاف” الحقوقية التي تعمل على فض النزاعات، أن النزاعات العشائرية في شرق سوريا “تشكل إحدى أبرز التحديات الأمنية والاجتماعية في المنطقة، فهذه النزاعات تندلع بشكل متكرر بين العشائر المختلفة، وتتمحور في العادة حول الخلافات على الأراضي والموارد والنفوذ السياسي”.
وحول أسباب هذه النزاعات، يشير العبدالله إلى أن جذورها تعود إلى عوامل تاريخية واجتماعية معقدة، “كالصراعات على الموارد والسلطة، وتضارب المصالح بين العشائر، إضافة إلى ضعف الحكم المركزي وغياب آليات فعالة لفض هذه النزاعات”.
ويرد العبدالله تطور هذه النزاعات إلى مواجهات محدودة تتصاعد لتتحول إلى اشتباكات مسلحة واسعة النطاق، تؤدي إلى نزوح السكان وتدمير الممتلكات، ملاحظاً أن النساء والأطفال “هم الأكثر عرضة للمخاطر في هذه النزاعات، حيث يتعرضون للقتل والاختطاف والاغتصاب والتشريد”، مضيفاً: “يعود غياب الحماية المدنية لهؤلاء الضحايا إلى ضعف مؤسسات الدولة وانعدام سيادة القانون في المناطق المتأثرة بالنزاعات، فغالباً ما تكون السلطات المحلية عاجزة عن التدخل لوقف هذه النزاعات أو حماية المدنيين”.
وفي ظل هذا الوضع، يلجأ الضحايا إلى المنظمات الحقوقية والإغاثية في المجتمع المدني للحصول على الدعم والحماية، “وهذه المنظمات تؤدي دورًا محوريًا في مناصرة قضايا النساء والأطفال المتضررين من النزاعات، بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدة القانونية والنفسية، والمطلوب تعزيز سيادة القانون وبناء مؤسسات قضائية فاعلة قادرة على فض هذه النزاعات بشكل سلمي”، كما يقول العبدالله الذي يرى أن الحلول طويلة المدى تتطلب معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات، كتحسين إدارة الموارد وتعزيز الحوكمة المحلية.
ختاماً، يقول العبدالله إن منظمات المجتمع المدني تقوم بمبادرات عديدة لدعم النساء والأطفال المتضررين، “إلا أن الجهود الحكومية والأمنية لا تزال متواضعة في هذا الصدد، وغياب الحلول الجذرية للنزاعات العشائرية أدى إلى تفاقم معاناة النساء والأطفال، الذين يتحملون العبء الأكبر من هذه الصراعات”، ويرى أن معالجة هذه الأزمة تستدعي تضافر الجهود على المستويات القانونية والأمنية والاجتماعية، لضمان حماية الفئات الضعيفة وتحقيق العدالة والاستقرار المجتمعي.