دفعت الحاجة وندرة فرص العمل بمئات الأسر والباحثين عن عمل في إدلب وريف حلب بالشمال السوري إلى العمل في مشاركة مدفوعة الأجر بقطاف الزيتون. إلا أن هؤلاء العمال، من نساء يعملن لإعالة أسرهن وأطفال فقدوا فرصة التعلّم ورجال لم يجدوا عملاً لائقاً، يشكون ضآلة الأجور التي لا تعوض الجهد المبذول أكثر من 10 ساعات متواصلة في اليوم.
ويقول عاملون في قطاف الزيتون في إدلب لـ “963+”: “نبذل جهداً كبيراً في عمليات القطاف، مقابل عائد يومي متواضع، ونقبل به بسبب الفاقة والعوز”.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، لا تقتصر معاناة عمال قطاف الزيتون بإدلب على ما يتقاضونه من أجر زهيد فحسب، إنما يتعرضون أيضاً لمخاطر أمنية تهدد حياتهم.
الأجر زهيد جداً
في الصباح البارد، يصطف طالبو العمل في الساحات ليُنقلو إلى حقول الزيتون بإدلب. إنه يوم آخر من العمل الشاق.
ترتدي “سمية” (28 عاماً) ملابس سميكة وكفين صوفيين، وتغطي وجه رضيعها بوشاح، وتتجه إلى الساحة فيما تكون الشمس خجولة من الظهور. إنها من سكان مدينة سلقين شمال غرب إدلب، تعمل في قطاف الزيتون بعدما أصيب زوجها بالشلل.
تقول “سمية” لـ “963+”: “أعمل من الفجر إلى الغروب، وما أحصل عليه هو 120 ليرة تركية، أي نحو 3.5 دولارات تقريبًا، وهذا لا يكفي حتى لتأمين وجبة طعام واحدة”، فيما تحاول أن تخفي خلف كلماتها شظف العيش الذي يثقل كاهلها.
وتضيف: “على الرغم من قسوة الظروف، لا خيار آخر أمامنا إلا القبول بهذا الوضع المرير، فنحن نقطف الذهب في هذه الأرض، لكن ما نحصل عليه لا يعادل جزءاً بسيطاً من الجهد الذي نبذله”، وهذا ما تؤكده عاملة أخرى تقف بجانب “سمية”، قبل أن تعودا إلى عملهما وسط صمت ثقيل.
الظروف الاقتصادية صعبة
في إدلب، حيث تزداد الأوضاع الاقتصادية تدهوراً عاماً بعد عام، يواصل “وليد” الخمسيني العمل في قطاف ثمار الزيتون، رغم الأجر الزهيد والمخاطر التي يواجهها.
يقول “وليد” لـ “963+”: “كل شيء يرتفع، من الأسعار إلى تكلفة المعيشة، باستثناء الأجر الذي نتقاضاه، وهذا لا يتناسب مع الارتفاع الكبير في الأسعار، خصوصاً مع ارتفاع قيمة الدولار الذي يزيد من معاناتنا يومًا بعد يوم”.
ويضيف: “نعمل ساعات طويلة، لكن يكاد ما نحصل عليه لا يكفي لشراء الطعام والاحتياجات الأساسية، فالأسعار في الأسواق ترتفع باستمرار، والأجور ثابتة كما هي”.
ومع الارتفاع المستمر في أسعار المواد الأساسية من طعام ووقود، باتت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة إلى العمال، إذ تتزايد تكاليف المعيشة بشكل كبير، بينما لا يتجاوز أجر العامل في قطاف الزيتون عن 3.5 دولارات يومياً.
ورغم الجهود الكبيرة التي يبذلها “وليد” وزملاؤه في العمل، يبقى الأجر أقل كثيراً من احتياجاتهم الأساسية التي تضاعفها تقلبات السوق وارتفاع قيمة الدولار.
وبينما يعجز كثيرون عن تغطية احتياجاتهم اليومية، يبقى العامل في إدلب رهينة واقعه الصعب: لا يمكنه إلا الاستمرار في عمل شاق بلا أمل في تحسن الأوضاع الاقتصادية.
الحياة على المحك
يعيش سكان إدلب في مناطق يُعتبر فيها العمل في الحقول محفوفًا بالمخاطر الأمنية، خصوصاً في مناطق تشهد اضطرابات واشتباكات مثل جبل الزاوية، حيث القصف مستمر، بالمدفعية أو بالمسيرات الانتحارية، ما يهدد حياة المدنيين العاملين في حقول الزيتون.
رغم ذلك، يستمر بعض العمال في العمل في تلك المناطق بسبب الأجر الأعلى قليلاً الذي يصل إلى 250 أو 300 ليرة تركية (ما يعادل نحو 8.5 دولارات)، وهذا مبلغ يُعتبر مغريًا مقارنة بالأجور التي يحصل عليها العمال في مناطق أخرى.
يقول “عمار”، أحد عمال جبل الزاوية، لـ”963+”: “نسمع دوي القذائف قريبة منا، لكننا اعتدناها، فحتى لو شكلت تهديداً لحياتنا، فلا بديل لنا سوى العمل هنا، ونعرف أن حياتنا في خطر دائم، لكننا مضطرون”.
تعكس تصريحات “عمار” الوضع الأمني المأساوي الذي يعيشه الكثيرون في إدلب يوميًا. فقد تصاعدت أخيراً حملات القصف من القوات الحكومية السورية والروسية على المدنيين في قرى شمال غربي سوريا وبلداتها، حيث تعرضت إدلب والأرياف الملاصقة بها لقصف عنيف شبه مستمر بمختلف أنواع الأسلحة في 28 تشرين الأول / أكتوبر المنصرم.
وقال الدفاع المدني السوري إن “طفلة وشاباً أصيبا بقصف صاروخي نفذته القوات الحكومية على مدينة سرمين شرقي إدلب، حيث أسعفت فرق الطفلة المصابة بإحالتها من مشفى سرمين إلى مشفى إدلب، وتفقدت الأماكن التي طالها القصف وتأكدت من عدم وجود مصابين آخرين.
الأطفال والزيت ضحايا الحرب
“أساعد أبي وأمي في العمل لأنهم يحتاجون إلي، كنت أتمنى لو كنت في المدرسة مثل باقي الأطفال، لكننا لا نملك خيارًا آخر”، كما يقول “أحمد” لـ”963+”.
يشير العديد من الأطفال العاملين في الحقول إلى أنهم كانوا يطمحون في المستقبل للذهاب إلى المدرسة، لكنهم يجدون أنفسهم مجبرين على العمل جنبًا إلى جنب مع آبائهم وأمهاتهم.
ولا تتوقف مشكلة الزيتون عند هذا الحد، فثمة أزمة حقيقية. يقول المزارعون إن إنتاج زيت الزيتون البكر زاد، وسعر “تنكة” الزيت إلى ارتفاع.
وفيما يرنو أطفال سوريا، في معظم المناطق الأخرى، إلى بناء مستقبلهم بالتعليم، يُحرم بعض أطفال إدلب من هذه الفرصة بسبب الفقر القاهر والحاجة إلى العمل.