في قلب دمشق، وتحديداً في حي مشروع دمر (الشام الجديدة)، يقع مرسم الفنان التشكيلي الدكتور محمد غنوم، حيث تتعانق رائحة الألوان الزيتية مع عبق البخور، ويتنفس المكان روح الإبداع والذكريات. في هذا الفضاء الفني الحميم، أجرت صحيفة “963+” في العدد الثامن منها حواراً مع الفنان السوري، امتدّ بين محطات شخصية ومهنية، من الحرب إلى الحرف، ومن الدمار إلى الأمل.
نبدأ من هذا المرسم، حيث تقف أمام لوحة “وطن” التي جسدت فيها الحرف العربي بطريقة غير مألوفة. ما القصة وراء هذه اللوحة؟
هذه اللوحة جزء من روحي، رسمت فيها كلمة “وطن” بخط الثلث، لكن بطريقة تعبّر عن الألم والانبعاث معًا. جعلت الواو تتشابك مع سلك شائك، رمزًا للقيد والمعاناة، بينما جعلت من النون فراشات ترفرف، دلالة على الأمل والتحرر. هذه ليست لوحة فقط، بل هي تلخيص لمسيرتي كفنان حمل وطنه في قلبه، ولم يكفّ عن التعبير عنه حتى في أحلك الظروف.
هل يمكن أن نعتبر هذه اللوحة مفتاحًا لفهم تجربتك الحروفية؟
بالتأكيد. تجربتي الحروفية ليست مجرد تشكيلات جمالية، بل هي سيمفونية صوفية تنبض بالحياة، متأثرة بالطبيعة والروحانيات، وتستمد عمقها من الخط العربي، الذي لا أراه مجرد أداة للتزيين، بل حاملًا لدلالات روحية وتاريخية عميقة.
اقرأ أيضاً: نقابة الفنانين السوريين تنعى الممثل موسى الملا – 963+
من جوبر إلى مشروع دمر، ما الذي تغير؟
غنوم (بصوت مفعم بالحسرة): ولدت في حي جوبر الدمشقي، وهناك عشت طفولتي، وامتلكت مرسمي القديم في شارع العمادية، قرب ساحة العباسيين. خلال الحرب، فقدت ذلك البيت التراثي بكل ما يحمل من ذكريات، وفقدت معه مرسمي الأول الذي كان شاهداً على تجربتي الفنية لعقود. خسرت أكثر من ٥٠٠ عمل فني، وأكثر من ١٠٠٠ كتاب من أمهات الكتب الأدبية والفنية والفلسفية، وأكثر من ١٥٠٠ وثيقة فنية كنت أمتلكها بحكم عملي في المكتب التنفيذي لنقابة الفنون الجميلة وكموجه أول لمادة التربية الفنية في وزارة التربية.
كيف واجهت هذه الخسارة؟
كانت صدمة قاسية. توقفت عن الرسم لسنوات. شعرت كأن الحرب انتزعت مني كل شيء. لكن إيماني برسالة الفن أقنعني بالعودة. عدت إلى اللوحة بقوة، وبدأت من جديد أبحث في الحرف العربي عن إشراقاته، عن قدرته على نقل الألم وتحويله إلى جمال. الحرف بالنسبة لي لم يعد مجرد شكل، بل حامل لإعجاز قرآني يتجاوز اللغة إلى البصيرة.
نعود إلى الحاضر… كيف تقيّم حال الفن التشكيلي السوري بعد الحرب؟
غنوم: الفن التشكيلي السوري، مثل كل شيء في هذا الوطن، عانى التدمير والظلم والقهر. الفن لم يسلم من الحرب. مرسم كثير من الفنانين دُمر، والبيئة الحاضنة للثقافة تقلصت. لكن ورغم هذا، ما زلنا نرى زهرات صغيرة تنمو وسط الركام. هناك محاولات فردية تُشبه المعجزات.
اقرأ أيضاً: عائلة سعد الله آغة القلعة تنعي الوزير والمدرّس والباحث العاشق للموسيقى – 963+
إذًا، كيف يمكن أن نعيد إعمار الثقافة السورية؟
بإرادة وطنية وخطة شاملة تبدأ من التربية الفنية في مراحل التعليم الأولى. يجب أن نعزز الذائقة البصرية لدى الجيل الجديد، ونرسّخ الهوية الجمالية السورية. الفن التشكيلي أسهل من غيره في إعادة البناء لأنه يعتمد على الجهد الفردي، لكن لا بد من دعم مؤسساتي حقيقي، لتوطين الفنانين، وتمكينهم من عرض أعمالهم.
لك تجربة طويلة في العمل النقابي والثقافي، كيف ترى دور الدولة في دعم الفنانين؟
الدولة ممثلة بوزارتي الثقافة والخارجية مطالبة بدور فاعل، لا سيما في تنظيم المعارض الدولية، وطباعة الكتب الفنية، وإنتاج الأفلام الوثائقية التي توثق تجارب الفنانين. ما نراه اليوم من حضور للفن السوري في الخارج هو بفضل جهود فردية، ما يثقل كاهل الفنان مادياً ومعنوياً. نحن بحاجة لاستراتيجية ثقافية رسمية تعرّف العالم بالفن السوري كجزء من الهوية الحضارية.
وماذا عن الفنانين السوريين في الخارج؟
نجاحاتهم ثمينة وتستحق التقدير. نعم، بعضهم تأثر بالثقافة الغربية، لكن الجوهر سوري. هذه النجاحات يجب أن تتحول إلى جسور ثقافية تعيد تعريف العالم بتراثنا، وتُبرز قدرتنا على تجاوز المأساة. يجب أن نحتفي بهم، نوثق أعمالهم، ونتعاون معهم لبناء سردية ثقافية موحدة.
اقرأ أيضاً: الثقافة السورية بين ركام الماضي وغموض المستقبل – 963+
حدثنا عن مشاركاتك الدولية وتجربتك الشخصية في هذا المجال؟
منذ عام 1980، قررت أن أحمل هذه الرسالة الفنية على عاتقي. اعتمدت على نفسي في تنظيم المعارض الخارجية، دون دعم يُذكر. قدّمت أعمالي في بلدان أوروبية عدة، لأنني مؤمن بأن الفن يجب أن يُرى، وأن تُسمع رسالته، خاصة عندما تكون نابعة من الألم السوري العميق.
في ظل كل هذه التحديات، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن في بناء السلام؟
الفن لا يحقق السلام مباشرة، لكنه يزرع بذور التسامح في العقول. الفن التشكيلي يُذكّر الإنسان بإنسانيته، يعيد تشكيل وعيه، ويحارب التطرف والانحطاط. هو جسر بين الثقافات، ووسيلة لتقريب المختلفين. وعلينا كفنانين أن نكون رسلاً للأمل.
كيف ترى الجيل الجديد من الفنانين السوريين؟
أنا متفائل جداً. هناك مواهب فذة، تدمج بين العمق الفكري والجرأة التقنية. هؤلاء سيُدهشون العالم، إذا ما تم تمكينهم ودعمهم. أنصحهم بالتمسك بهويتهم، لا يتخلوا عنها. الأصالة ليست ضعفاً، بل مصدر قوة وسط هذا العالم المتغير.
هل ترى أن للفن مستقبلاً مشرقاً في سوريا؟
نعم، أنا مؤمن أن سوريا بلد المواهب والعبقريات، والفن فيها لن يموت. سيظل منارة تُضيء طريق المستقبل، وسنبني بها مجتمعاً أكثر جمالاً، أكثر تسامحاً. ما دامت هذه الأرض تنبت الحرف العربي، سيبقى الفن شاهدًا على عظمتها.
نشرت هذه المادة في العدد الثامن من صحيفة “963+” الأسبوعية والصادرة يوم الجمعة 25 نيسان /إبريل 2025.
لتحميل كامل العدد الثامن من الصحيفة النقر هنا: الصحيفة – 963+