خاص – دعاء الزيود / عمّان
“أنا حمزة، وعُمري 10 سنوات. أعيش في هذا المخيم بعيدًا عن بلدي سوريا، وحياتي هنا صعبة جدًا”. هكذا بدأ “حمزة” حديثه لـ “963+” حين التقيناه في أحد المخيمات المتناثرة في قلب البادية القاحلة شرق محافظة المفرق، في الشمال الشرقي من المملكة الأردنية.
هناك، تتناثر المخيمات العشوائية أشباحاً تعكس معاناة آلاف اللاجئين السوريين، وفيها يلتقي الظمأ بالحاجة، وتختلط أحلام الأطفال بواقع مرير لا يرحم، هو واقعٌ يفرض عليهم تحديات يومية تفوق قدرتهم على التحمل. فبين خيام مهترئة ترفرف فوقها آمالهم البسيطة، وفي طرق ترابية يغطيها غبار الإهمال، تنبعث صرخاتهم دعواتٍ للمساعدة في مواجهة انعدام حقوقهم الإنسانية الأساسية، وعلى رأسها حقهم في التعليم.
أحلامهم تتلاشى
يضيف “حمزة”: “أنا وأصدقائي ندرس في كرفان صغير، يتعبنا فيه الغبار والحر والمكان ضيق، ونقص الأدوات المدرسية. أحلم أن أتعلم وأدرس الطب، لكن هذا ليس سهلاً. أتمنى لو أعود إلى بلدي لأعيش بأمان، أكون قادراً على التعلم واللعب مثل باقي الأطفال”.
تتجسد معاناة “حمزة” وأترابه في واقع مئات اللاجئين السوريين الذين يعيشون في مخيم عشوائي قرب البوابة الجنوبية لجامعة آل البيت. بالنسبة إليهم، يمثل التعليم حلمًا قد يتبدد مع كل يوم يمر من دون أن تتاح لهم فرصة الولوج إلى عالم المعرفة، بينما يصارعون الفقر والنزوح يوميًا، ويحاولون البقاء على قيد الحياة في ظروف قاسية.
تقول بيانات الأمم المتحدة إن نسبة كبيرة من الأطفال في سن التعليم لا يحصلون على تعليم منتظم في مخيمات اللجوء، حيث تتراوح معدلات التسرب المدرسي بين 30 و50% في بعض المخيمات.
وقصة “خالد” وإخوته الثمانية وجه آخر من وجوه المعاناة. اضطر “خالد” (16 عامًا) لترك المدرسة في الصف الثامن بسبب ظروف عائلته الصعبة. تقول أمه لـ”963+”: “خرج خالد من المدرسة ليعينني، فإننا نحتاج لكل مساعدة ممكنة، حتى إننا اضطرنا إلى تزويج البنات في سن مبكر، بسبب عجزنا على تلبية احتياجاتهن”.
يرفض “خالد” العودة إلى المدرسة، مهما حاولت إقناعه. تقول: “يبقى مصمماً على تأمين احتياجاتنا الأساسية”.
تعكس قصة “خالد” الواقع المؤلم الذي يعيشه الكثير من الأسر السورية النازحة، مسلطةً الضوء على تأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية على مستقبل الشباب. ففي النهاية، تظل صرخات الأطفال مثل حمزة وخالد دعوات إنسانية تستحق الاستجابة، وتذكيرًا بأن الحق في التعليم ليس حلماً، بل ضرورة حتمية لبناء مستقبل كريم.
بيئة غير ملائمة
في قرية صبحا شرقي محافظة المفرق، يعيش اللاجئون السوريون في مخيم منذ عام 2014، فيعملون في المزارع المجاورة،
في السابق، كان مشروع “مكاني” الممول من منظمة العون والتعاون التقني والتنمية (أكتد) يوفر التعليم للأطفال في ذلك المخيم، “لكن المشروع توقف بسبب نقص التمويل والدعم الدولي، فصرت مضطراً لإرسال أبنائي إلى المدارس الحكومية الأردنية في القرية المجاورة، وتبعد نحو كيلومترين عن المخيم”، كما يقول السوري “أبو سيف” لـ”963+”، مضيفاً ابني في الصف الرابع، ولا يزال غير قادر على القراءة أو الكتابة. ورغم مطالبتي المستمرة للمنظمات الإنسانية بتقديم الدعم التعليمي، حتى ولو ببرامج محو أمية، فإن الجهود لا تزال غير كافية”.
حاول العديد من المنظمات تقديم حلول تعليمية داخل المخيم، إلا أن العوائق المادية حالت دون تأمين أماكن ملائمة للتدريس، ما دفع الأهالي إلى شراء كرافانات على نفقتهم الخاصة، رغم معاناتهم الاقتصادية. يؤكد أبو سيف أن الظروف التعليمية قاسية، “حيث تعاني تلك الكرافانات من حرارة الصيف وبرودة الشتاء، ولا تقدم بيئة تعليمية آمنة للأطفال، لكنه الإصرار على حقهم في تحصيل العلم!”.
وبحسبه، لم تعد المدارس الحكومية توفر وسائل نقل مجانية كما في السابق، وهذا زاد الأعباء على الأسر، كما شكا تراجع جودة التعليم في هذه المدارس، ما يجعل ارتيادها بلا فائدة. ويختم قائلاً: “يقتصر التعليم في المخيمات العشوائية على ساعة واحدة يومياً، ولا بنية تحتية أو التزام دوام رسمي”.
أبطال مجهولون
نقص المعلمين المؤهلين في المخيمات مشكلة كبيرة، تؤثر في نوعية التعليم. وفقًا لتقرير منظمة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، لا يوجد عدد كافٍ من المعلمين المدربين للتعامل مع العدد الكبير من الأطفال، ويعاني المعلمون المتطوعون في المخيمات من نقص التدريب والتأهيل اللازمين للتعامل مع الأطفال المتضررين نفسيًا من آثار الحرب.
في إحد المخيمات العشوائية بمحافظة المفرق، يواصل المعلم أحمد الديري، المعروف بأبو قاسم، تقديم خدماته التعليمية للأطفال منذ بداية الأزمة السورية. وهو يعمل بنظام الفترتين، صباحًا ومساءً، في كرفانين بسيطين، ويقدم دروسًا للأطفال في ظروف صعبة.
يروي الديري لـ”963+”: “أعمل منذ سنوات في تعليم هؤلاء الأطفال، أحيانًا نستخدم الكرفانات وأحياناً كثيرة نلجأ إلى الخيام. أدرسهم المناهج الأردنية… ومحو الأمية، وليسوا كباراً في السن، إنما أطفال، وما يحمسني رغبتهم القوية في التعلّم، وتمسكهم بفرصتهم المعرفية رغم ظروفهم القاسية، ومعاناتهم من الضغط النفسي الحاد من دون أي دعم، وربما هذا ما يعرقل استيعابهم وقدرتهم على التركيز”.
في هذه الكرافانات أو الخيام، يستخدم الديري أساليب تعليمية مبسطة، ويراعي الفروق الفردية بين تلاميذه، “ويبقى نقص الدعم الدولي والعجز عن توفير الموارد الأساسية كالقرطاسية مثلاً، من أقسى التحديات التي تعيق عملية التعليم في هذه المخيمات”، كما يقول، مضيفاً: “إنها ماساة إنسانية تتطلب تدخلًا دولياً عاجلًا، والمطلوب توفير بيئة تعليمية أفضل للأطفال، لا أكثر”.
تحديات صعبة فعلاً
واقع تربوي لا يمكن نكرانه، لذا يؤكد الخبير التربوي الأردني عايش النوايسة أن التحديات التي تواجهها مسيرة التعليم في المخيمات العشوائية ترتبط بظروف استثنائية يعيش فيها اللاجئون، ابتداءً بتهالك المدارس في المخيمات وليس انتهاءً بكل ما تحتاج إليه العملية التعليمية، وأساس الأزمة نقص الموارد المالية من الجهات المانحة.
يقول النوايسة لـ”963+”: “تؤثر الظروف النفسية بشكل كبير في التحصيل العلمي للطلبة في هذه المخيمات، حيث البيئة سلبية تسبب القلق والتوتر، ما يؤثر في مخرجات التعليم”، مؤكداً أن البنية التحتية في هذه المخيمات “غير ملائمة للعملية التعليمية، إذ تفتقر إلى المقومات الأساسية، فلا مختبرات ولا ملاعب، لذا نطالب بتحسين هذه البيئة التعليمية قدر الإمكان، بتأمين معلمين مؤهلين وتدريبهم على التعامل مع هذه البيئات، وبتعيين قيادة تعليمية فعالة، وتكثيف جهود المنظمات والدولة في الأردن لتحسين الظروف التعليمية في المخيمات، فهذا كله يعزز الدافع عند الطلاب إلى التعلم”.
بين الوعود والواقع
يؤكد الدكتور فيصل الهواري، مدير إدارة التخطيط والبحث التربوي في وزارة التربية والتعليم الأردنية، أن الوزارة تسعى جاهدة إلى توفير بيئة تعليمية آمنة للطلاب السوريين والأردنيين. وقال لـ”963+” إن الوزارة “مجهزة بنظام الفترتين الصباحية والمسائية لاستيعاب جميع الطلبة، ما يتيح توفير بيئة مدرسية آمنة توازي البيئة التعليمية لطلابنا”.
ويضيف الهواري أن الوزارة تقدم دعماً نفسياً واجتماعياً للطلبة السوريين في الفترة المسائية، إضافة إلى الطلبة المدموجين مع الطلبة الأردنيين في الفترة الصباحية، مشيرًا إلى أن الوزارة “لا تفرق بين الطلاب، حيث تعمل على استيعاب أكبر عدد ممكن من السوريين مع نظرائهم الأردنيين، خصوصاً في المناطق المقتضية”، مبيّنًا أن هناك كادراً تدريسياً مدرباً ومؤهلاً للفترة المسائية” لضمان التعليم الجيد.
ويشدّد على أهمية تقديم الدعم الاجتماعي للطلاب، وعلى دور قسم الإرشاد التربوي، داعياً المنظمات المانحة لدعم هذه الفئة، ويوضح أن وزارة التربية والتعليم الأردنية بدأت منذ بدء الأزمة السورية العمل على نظام إضافي للفترة المسائية، مؤكدًا أن “الطاقم التعليمي كامل ومكتمل بحسب التشكيلات المدرسية، وعدد الصفوف في كل مدرسة”.
إلى ذلك، تواصل الحكومة الأردنية تعاونها مع المنظمات الدولية لتحسين وضع التعليم في المخيمات، حيث أُطلقت مبادرات تهدف إلى توفير التعليم الرسمي وغير الرسمي للأطفال اللاجئين. ومع ذلك، تظل هذه الجهود غير كافية بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجهها.
عقبات جسيمة
أظهرت دراسة حديثة بعنوان “النزوح القسري والتعليم: بناء الأدلة على الحلول الناجحة”، صادرة عن اليونيسف، أن الحكومة الأردنية تواجه عقبات جسيمة في دمج اللاجئين ضمن أنظمة التعليم الوطنية، نتيجةً لمحدودية الموارد المتاحة. وأكدت الدراسة ضرورة استثمار المزيد من الجهود في برامج وسياسات التعليم، لتعزيز نتائج التعلم للاجئين والمجتمعات المضيفة.
وتشير البيانات إلى أن ميزانية التعليم الحكومية في الأردن لا تتجاوز 3.0% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى منخفض مقارنة بدول ذات دخل متوسط أعلى، مثل كولومبيا، التي تخصص 4.5% من ناتجها المحلي الإجمالي للتعليم.
ودعت الدراسة الممولين الدوليين والوكالات الحكومية إلى تطوير أنظمة تحليلية لقياس تكاليف برامج التعليم، مع إجراء مقارنات دقيقة بين تأثيرات البرامج التعليمية المختلفة. يهدف هذا التوجه إلى تحقيق استراتيجيات تعليمية أكثر فعالية، مما يسهم في تحسين نتائج التعلم ويدعم إدماج اللاجئين في النظام التعليمي.