في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا، يعيش أكثر من 800 طفل مصاب بمتلازمة داون في ظروف قاسية تتجاوز التحديات الصحية المرتبطة بحالتهم، إذ تتفاقم معاناتهم في ظل الصراع المستمر الذي تعيشه المنطقة منذ سنوات طويلة، فضلاً عن ندرة الخدمات المتخصصة التي يحتاج إليها هؤلاء، ما يجعل الحياة بالنسبة إليهم وإلى أسرهم معركة يومية من أجل البقاء.
ما هي متلازمة داون؟
اصطراب وراثي، يسببه انقسام غير طبيعي في الخلايا، ما يؤدي إلى زيادة النسخ الكلي أو الجزئي في الكروموسوم “21”، فتحصل تغيرات في النمو والملامح الجسدية التي تتسم بها “متلازمة داون”، وفق الدكتور رضوان مواس، المتخصص في طب الأطفال.
يقول مواس لـ”963+” إن حدة هذه المتلازمة تتفاوت بين المصابين بها، ما يسبب غالبًا إعاقة ذهنية وتأخرًا في النمو يستمر مدى الحياة، “فيعاني معظم أطفال داون تأخراً في النطق وضعفاً في الإدراك بين معتدل ومتوسط، نتيجة تأثر الذاكرتين القصيرة والطويلة الأجل، وذلك يتطلب تزويد هؤلاء الأطفال بمتممات غذائية ومنشطات ذهنية لإبقاء حالتهم الصحية في وضع مستقر”.
يضيف: “أشهر اضطراب كروموسومات وراثي هو الذي يؤدي إلى إعاقات التعلم في الأطفال، ويؤثر في حالتهم الفيزيائية والصحية، ويسبب بعض حالات الشذوذ الطبية، التي تؤدي بدورها إلى اضطراب في القلب والجهاز الهضمي”.
وبحسب مواس، كل مصاب بـ “متلازمة داون” هو فرد يعاني مشكلات عقلية ونمائية تتراوح نسبتها بين الخفيفة والمعتدلة وشديدة، “وقد يكون بعضهم أصحاء، بينما يعاني بعض آخر مشكلات صحية كبيرة كالتشوه في القلب، كما يتميز الأطفال والبالغون المصابون بملامح مميزة، كالوجه المصطح والرقبة القصيرة والرأس الصغير والجفون المائلة والأيدي والأرجل الصغيرة، لكنها قد تختلف بين طفل وآخر”.
معاناة اجتماعية ومادية
لم تتخيل فريال عبدان يومًا أن يتعرض ابنها المصاب بـ”متلازمة داون” لنظرات غريبة وقاسية من مجتمع أصبح يعرف معنى الإنسانية بتفاصيلها بعد سنوات طويلة من الحرب والظروف القاهرة، وألا يتلقى “هو والكثير مثله الرعاية الصحية والنفسية اللازمة من الجهات الرسمية والجمعيات المحلية المهتمة بذوي الإعاقة لأسباب عدة، أهمها نقص التمويل الذي حدّ من انتشار المراكز المتخصصة بالعناية بأطفال داون”، كما تقول لـ”963+”.
في شهرها الخامس، علمت هذه السيدة الثلاثينية المتحدرة من بلدة أرمناز غربي إدلب أن جنينها مُصاب بـ”متلازمة داون”. أوقعها هذا الأمر وزوجها في حيرة، فاقترح عليها الإجهاض خوفًا من تحديات جسدية وعاطفية وصحية مادية قد يواجهانها بعد ولادة الطفل، لكنها رفضت رفضاً قاطعاً، وأعلنت استعدادها لخوض تجربة مليئة بالتحديات.
اشتكت عبدان لـ”963+” عجزها عن توفير وسائل مخصصة للتعليم والنطق لابنها وسيم (6 سنوات) بسبب دخلها المحدود، “ولا يوجد في البلدة ولا في الجوار مركز متخصص بالعناية بأطفال داون، ما يجبرني على وضعه في مركز لذوي الإعاقة لتنمية قدراته النطقية والسمعية بشكل مبدئي، لأن متابعته عند أطباء أخصائين طوال مرحلة نموه، أو إرساله إلى المركز المجاني الكائن في مدينة إدلب بشكل يومي، يتطلب توفير المال، وهذا ما تفتقده معظم الأسر في شمال غرب سوريا”.
عدد أطفال داون
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن طفلاً واحداً يصاب بمتلازمة داون من بين كل 1100 ولادة حية في العالم، فيولد في كل عام بين 3,000 و5,000 طفل يعانون هذا الاضطراب الجيني في العالم.
في محافظة إدلب والأرياف المحيطة بها، والخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، بلغ عدد الأطفال المصابين بـ”متلازمة داون” نحو 807 أطفال دون الثامنة عشرة، وفقاً لمسح ميداني أجرته مؤسسة شارك للإغاثة والتنمية من خلال مركز “القلوب البيضاء لأطفال داون”، الذي يحظى باهتمام واسع ودعم محدود من المؤسسة.
وقال مدير المركز عبدالله المحمد لـ”963+” إن 60 طفلاً فقط من العدد الكلي لأطفال داون يحصلون على الخدمات المجانية التي تساهم في تنميتهم، “ما يعني أن طفلاً واحداً من بين كل 14 طفلاً يحصل على الرعاية اللازمة”، وتتمثل بالتعليم والعلاج الفيزيائي وعلاج النطق والدعم النفسي والتوجيه، لافتاً إلى أن نسبة المستفيدين متدنية جدًا مقارنة بأعداد الأطفال الذين يحتاجون لهذه الرعاية المتكاملة، إلا أن هذه قدرة المركز والإمكانيات المتاحة.
وأوضح المحمد أن السلطات والمنظمات المحلية لم تهتم أو تقدم أي نوع من أنواع الدعم لهذه الفئة الضعيفة والمهمشة مجتمعيًا، وأن دعم المركز قائم على التبرعات الفردية والبسيطة التي تصل من خلال “مؤسسة شارك”، فيما شدد على ضرورة تسليط الضوء أكثر على المراكز والمنشآت المهتمة بأطفال داون وتقديم دعم ثابت ومستقر لها، لأن وجود مساحات آمنة وخاصة أمر هو غاية في الأهمية.
تحديات شخصية ومجتمعية
تعتبر صعوبة النطق والتواصل وردات فعل أفراد المجتمع من أهم التحديات التي يواجهها أطفال متلازمة داون في شمال غرب سوريا، بحسب الاستشارية الاجتماعية وضحى عثمان، التي تقول لـ”963+” إن هذه التحديات “تترك في نفوسهم آثاراً سلبية، تؤدي إلى شعورهم بالحزن الشديد والعزلة عمن حولهم، وصولاً إلى أسرهم المقربين منهم، كون الحساسية عندهم مرتفعة جدًا عن دون غيرهم. كما يعانون صعوبات كثيرة في أداء مهامهم اليومية لأنهم – بشكل أو بآخر – أطفال غير طبيعيين، لا يملكون القدرة على التعامل أو التأقلم مع المحيط بسهولة.
ولفتت عثمان إلى ضرورة وجود مدارس ومراكز خاصة توفر برامج تعليمية فردية تراعي قدرات “أطفال داون” وتخفف الأعباء عن عائلاتهم، مثل التدخل المبكر وتطوير المهارات اللغوية والاجتماعية والجسدية، إلا أن مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة الحكومة تفتقر إلى هذا النوع من المنشآت، على الرغم من حاجة المجتمع إليها.
وعن الاستجابة المجتمعية مع أطفال داون، قالت عثمان إن لا وعي الكافي في بعض المجتمعات المحلية للتعامل بشكل صحيح وإيجابي مع هذا النوع اللطيف من الأطفال، إذ يشعرونهم بأنهم مختلين عقليًا ومنبوذين وعالة على المجتمع، ومن زاوية أخرى يوجد فئات من المجتمع تتعامل معهم بشكل راقٍ ومدروس، وتفسح لهم المجال للتعبير والتعلم، لتغيير وضعهم إلى الأفضل.
المجتمع وآثاره
تراجع مستوى السلوك والنطق عند الطفل رأفت الخطيب (9 سنوات)، وهو نازح في دركوش، ولديه متلازمة داون”. “بشكل مفاجىء، بدأ يظهر سلوكًا عدوانيًا ضمن المنزل والمركز الذي يلجأ إليه لتعلم النطق، بعد ما تعرض للتنمر والضغوط من أقرانه في الحي أثناء اللعب، ما أجبر عائلته على منعه من الخروج من دون أن يرافقه أحد اخوته.
يشعر والد رأفت أحيانًا أنه يقف أمام تحديات اجتماعية أكبر كثيراً من تلك التحديات الصحية التي يعانيها طفله. ويقول الرجل الأربعيني لـ “963+”: “بعضهم يظن أن طفلي أقل قيمة أو غير قادر على العيش حياة طبيعية كغيره، فالنظرات المشفقة والتعليقات غير الملائمة اتجاهه أحدثت أثرًا عميقًا داخله وجعلته يتراجع إلى الوراء قبل أن يتدخل أخصائي النطق والدعم النفسي ويقدموا له جلسات مكثفة حتى أعادوه إلى طبيعته المألوفة”.
تعقيبًا على حالة رأفت، قالت آية المحمود، الأخصائية في تعليم وتصحيح نطق، إن هناك عدة عوامل تسبب صعوبة أو تراجع في النطق عند أطفال داون، من أهمها العوامل العصبية التي يكون فيها الدماغ غير قادر على إرسال إشارات واضحة للعضلات المسؤولة عن النطق حين انفعالهم، إضافة إلى العوامل البيئية، حيث لها دور كبير في تأخر النطق وتراجعه أحيانًا، في حال تفاقم وضع الحالة.
وتضيف الأخصائية أن استخدام الأجهزة الذكية بشكل مفرط يؤدي إلى تأخر النطق حيث ينتج عن ذلك الاعتماد على التفاعل البصري والسمعي بدلاً من التفاعل الاجتماعي وممارسة النشاطات الترفيهية والتعليمية التي تساعدهم على النطق.