غدا – أو بعد أيام – ستبين لنا صناديق الاقتراع من سيكون أقوى شخص في العالم: رجل شبه أمي، محدود الذكاء، ونرجسي وكاره للثقافة والتقدم، أم امرأة مثقفة انتقلت في مناصبها من مدعية عامة إلى عضو في مجلس الشيوخ إلى نائبة الرئيس بجهدها وذكائها. ولكن لا ننسَ أن هذا الشخص سيكون لديه شيفرة الترسانة النووية الأميركية، وسيكون بالتالي قادراً على إشعال حرب مدمرة أو خلق سلام دائم.
في 4 تموز/يوليو 2020، نشرتُ في جريدة عربية، وقبل أيام من انتخابات الرئاسة آنذاك التي تنافس فيها دونالد ترامب وجو بايدن، غامرت فيها بالتنبؤ بسقوط الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات. وكنت بين قلّة من الذين توقّعوا ذلك. واليوم قبل يوم واحد من الانتخابات، أعيد الكرة، وبعد تفكير وتأمل عميقين، وصلت إلى نتيجة أن المنطق والعقل السليم لن يسمحا لرجل مثل ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض، ولذلك فإن رئيسة الولايات المتحدة غدا ستكون كاملا هاريس.
يقول هيغل في مكان ما ” كلّ ما هو واقعي منطقي وكلّ ما هو منطقي واقعي”. وقد كانت ظاهرة دونالد ترامب في عام 2016 أمرا منطقيا ولذلك صار حقيقة واقعة، ولكنه فقد كلّ منطق من خلال ممارساته وأخلاقه وسوء إدارته وتشجيعه للعنصريين الأميركيين والاحتكارات العملاقة وقطيعته مع حلفائه الطبيعيين وتقرّبه من حكّام العالم الدكتاتوريين من بوتين إلى كيم جونغ إيل ومن رودريغو دوتيرتي إلى فيكتور أوربان. وكان فقدانه المنطق في بقائه رئيسا لأعظم قوّة في العالم مقدّمة لكي يصبح وجوده غير حقيقي وهو ما قرّرتْه صناديق الاقتراع يوم الثلاثاء الماضي.
مرّ على الولايات المتحدّة رؤساء عظام وجيدون وآخرون سيئون وتافهون: إبراهام لنكولن، وودرو ويلسون، ثيودور روزفلت، وجون كينيدي، تمثيلا وليس حصرا، رؤساء يحقّ للشعب الأميركي أن يفخر بأنه انتخبهم. وجيمس بوكمان، وارن هاردينغ، وجورج بوش الابن، يقفون في الخندق المقابل. أدّت سياسة بوكمان الخرقاء والعنصرية إلى تقسيم البلاد واندلاع الحرب الأهلية الأميركية التي أودت بحياة 620 ألف أميركي (2% من السكان). وكان هاردينغ فاسدا ومقامرا مدمنا على لعبة البوكر. أما جورج دبليو بوش فوضع نفسه تحت هيمنة حفنة من النيوليبراليين الذين دفعوا بالعالم إلى مستنقعات نتنة. ومع ذلك، كان بوكمان سياسيا موهوبا، وأسهم هاردينغ في خروج أميركا من أعباء الحرب العالمية الأولى، أما جورج بوش فكان مؤمنا حقيقيا بالديموقراطية.
جمع الرئيس دونالد ترامب كلّ مساوئ الرؤساء، من دون أن يتحلّى بأي من محاسنهم، لذلك كان من غير المعقول ولا الواقعي أن يستمرّ رجل كهذا في منصبه، في بلد ديموقراطي.. والحق أن ترامب فاسد ومفسد، جاهل، عنصري، كاره للمرأة، متباهٍ بذكورته، يكره الشعوب الأخرى، مراءٍ، وضعيف الشخصية. لم يخجل من المجيء إلى البيت الأبيض بمساعدة فاقعة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ولم يخجل من أن يضغط على الحكومة الأوكرانية آنذاك لكي تساعده في انتخابات 2020. يحب الطغاة، ويتمنى في أعماقه لو كان واحدا منهم، فهو غازل رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ومالأ رئيس الصين شي جين بينغ، وأبدى إعجابه برئيس الفيليبين رودريغو دوتيرتي الذي كان يلقي بالبشر من الطائرات، وغضّ الطرف عن أعمال الرئيس التركي أردوغان. وفي المقابل، هاجم ترامب قادة الدول الديموقراطية، وانسحب من مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو واتفاقية المناخ الدولية، وعاقب قضاة في محكمة الجنايات الدولية وأوقف مساهمة بلاده في تمويل منظمة الصحة العالمية.
مثّل صعود الرئيس ترامب حالة استثنائية في التاريخ الأميركي، إذ أن الرؤساء الأميركيين، على اختلاف أيديولوجياتهم وسياساتهم وخططهم الاقتصادية ومستويات ثقافتهم وذكائهم، كانوا يضعون الولايات المتحدة ومصالحها أولا، وكانوا يؤكّدون أنهم رؤساء للشعب الأميركي بأكمله، وليس لفئة منه. لقد شهد تاريخ الرؤساء في الولايات المتحدة رجالا أقوياء كدوايت أيزنهاور وضعفاء كأندرو جاكسون، أذكياء كجون كينيدي ومحدودي الذكاء كجورج دبليو بوش، مثقفين كباراك أوباما ومحدودي الثقافة كهاري ترومان، ولكن لم يكن من بينهم قبل دونالد ترامب أي رئيس وضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة البلاد، وعرّض الأمن القومي بإرادته للخطر وقدّم ادعاءات رئيس دولة خصما كفلاديمير بوتين على رأي قادة أجهزته الأمنية والسياسية والبيروقراطية.
جاء دونالد ترامب للسلطة على أكتاف شريحة من الأميركيين البيض الأقلّ ثقافة والأكثر تعصبّا، وساعده أيضا أن كثرة من الأميركيين لا يحبّذون بقاء حزبا واحدا في السلطة أكثر من ثماني سنوات (دورتين انتخابيتين)، وبالفعل منذ 1992، لم يبق أي حزب في الحكم أطول من دورتين انتخابيتين. كما ساعده أيضا رغبة بعض الأميركيين في تجريب شخص جديد من خارج الإستابلشمنت السياسية الأميركية، وزاد فوق ذلك أن خصمه كانت امرأة، ولعلّ الأميركيين لا يزالون غير مهيئين لتقبّل امرأة رئيسة عليهم، خاصّة وأن هيلاري كلينتون لم تكن محبوبة جدا بين الأميركيين.
ولكن العامل الأكبر كان بلا شكّ النظام الانتخابي الأميركي. فالولايات المتحدّة هي البلد الوحيد في العالم الذي يمكن لمرشّح للرئاسة أن يفوز بعدد أكبر من الأصوات ويخسر مع ذلك الانتخابات التي يفوز بها من حصل على أصوات أقل. حدث هذا مرتين على الأقل. في العام 2020، فاز نائب الرئيس آل غور بنحو خمسمائة ألف صوت زيادة على الأصوات التي حاز عليها الرئيس جورج بوش في التصويت الشعبي ولكن بوش هو من جلس في البيت الأبيض. وفي 2016، حصلت هيلاري كلينتون على مليوني ومائتي ألف صوت أكثر من دونالد ترامب، ولكن ترامب هو من يقود البلاد إلى الهاوية اليوم.
تغيّر المنظور الأميركي
ابتعدت الولايات المتحدة كثيرا عن ثقتها بنفسها بعد الحرب الباردة حينما رأت نفسها نموذجا عالميا. ومع تغيّر العالم، والبلد، وحتى الحزب الجمهوري، تعكس السياسة الخارجية الأميركية تزايد الشك في التحالفات التقليدية والعولمة. أصبح الحزب الجمهوري، الذي يميل الآن نحو الشعبوية تحت قيادة ترامب، يفضل “الأميركية” على العولمة، خاصة في تعامله مع السياسات الاقتصادية والتدخلات الخارجية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، أفسحت مكانة الولايات المتحدة الأميركية السابقة كنموذج عالمي الطريق أمام مشهد متغير، يتسم بتطور وجهات النظر حول العلاقات الدولية والدور القيادي لأمريكا في العالم. هذا الوضع تغير تحت قيادة دونالد ترامب، الذي تبنى الانعزالية والانكفاء إلى الداخل، وأعاد تقييم التحالفات التقليدية والعولمة.
واليوم، تطفو على السطح دعوات إلى تكوين قطب مواز للقطب الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتلعب الصين وروسيا وإيران والهند دورا في تأسيس هذا القطب. ولكن من يريد بالفعل أن يكون في معسكر تقوده واحدة من تلك البلدان؟
ومع ذلك، ما يهمني في هذه المقالة الحديث عن بلدي الأم سوريا ومنطقتي (الشرق الأوسط).
نحن وترامب وهاريس
تميز نهج ترامب تجاه سوريا بالتقلب وانعدام الاستراتيجية والانتقال من ضربة سريعة إلى انسحاب تدريجي من المشاركة العميقة. حيث عكست ضربته الصاروخية السريعة عام 2017، ردًا على هجمات كيميائية على المدنيين، استعدادًا لمواجهة الأسد، لكنه تحول فيما بعد إلى سياسة فك الارتباط، داعيًا إلى سحب القوات ووصف سوريا بأنها رمال متحركة لا ينبغي أن تنغمس فيه القوات الأميركية. وإذا عاد إلى المنصب، قد يُسرّع ترامب من وتيرة سحب القوات، وهي خطوة قد تشجع إيران وروسيا على تعزيز نفوذهما في سوريا. ومع توجهات ترامب نحو تعزيز العلاقات مع دول الخليج مثل السعودية، قد يتراجع اهتمام واشنطن بسوريا، ليتركز على تحالفات أوسع في الخليج.
بالمقابل، ليست هاريس الدواء الشافي لمشاكل الشرق الأوسط، ولكن ما يمزها عن خصمها ترامب جملة من القضايا. أهمها أن هاريس ليست متقلبة المزاج ويمكن التنبؤ بخطواتها في المنطقة.
في سوريا، تستمر في الحفاظ على وجود محدود في سوريا، وقد تركز إدارتها المحتملة على المشاركة الديبلوماسية الهادفة إلى البحث عن حل غير دراماتيكي، بينما قد لا يبقي على الأسد، فإنه سيدعم مرحلة انتقالية يشترك فيها جزء من النظام مع جزء من المعارضة في حكم البلاد، حتى كتابة دستور جديد.
على صعيد فلسطين وإسرائيل، ربطت هاريس دعمها لإسرائيل بتجنب الخسائر المدنية وتسهيل وصول المساعدات. وعلى الرغم من تأكيدها على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إلا أن إدارتها قد تسعى إلى نهج أكثر توازناً، يدعم إسرائيل مع مراعاة الأزمات الإنسانية. وتلتزم هاريس بحل الدولتين، على عكس الدعم الأحادي لترامب للسياسات الإسرائيلية، ما يجعل إدارتها أكثر ميلًا إلى لعب دور الوسيط المتوازن في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
على الصعيد الإيراني، فيما تؤيد هاريس الديبلوماسية فإنها تبقي “جميع الخيارات الأخرى مطروحة” فيما يتعلق بالطموحات النووية الإيرانية، مع التأكيد على المسارات الدبلوماسية بدلا من التصعيد. وقد تسعى إدارتها إلى إجراء محادثات للحد من طموحات إيران الإقليمية مع الإبقاء على العقوبات كوسيلة ضغط. ولكن توتر الأوضاع في المنطقة، وفجور وكاء حزب الله في سوريا والبنان والعراق قد يدفعها إلى مزيد من الشتدد في مواجهة طهران، وتأييد فكرة تحجيم قوتها في الشرق الأوسط.
وبالعموم، تتباين سياسات المرشحين في المنطقة، فإيديولوجية ترامب المتمثلة في “أمريكا أولاً” والحد من الوجود الأميركي قد تعيد تشكيل توازن القوى، مما يسمح لفاعلين كروسيا وإيران وتركيا بملء الفراغ في سوريا. في المقابل، قد يسفر نهج هاريس الذي يركز على الديبلوماسية والمشاركة المحدودة عن نتائج متواضعة ما لم يُدعم بإستراتيجيات احتواء قوية.
بالنسبة للسوريين، لا يقدم هذا السباق الانتخابي آمالاً كبيرة في حدوث تغيير جذري في السياسة الأميركية، مع توقعات باستمرار الغموض في التزام واشنطن تجاه سوريا. لكنّ الفروق الواضحة بين سياسات ترامب وهاريس تبرز تأثيرات محتملة قد تُحدد مستقبل الشرق الأوسط، وتُمهد إما لمزيد من التنافس الإقليمي أو للدفع نحو الاستقرار. ومع اقتراب موعد 5 نوفمبر، تبقى الرهانات عالية، ويظل مصير سوريا معلقًا جزئيًا على خيار القيادة الأميركية القادمة.
أخيراً
إذا نظرنا إلى الأمور من منظار واسع، يضع مصلحة الديموقراطية ومستقبلها على هذا الكوكب، فإن الخيار الوحيد الصحيح هو ألا يُسمح لدونالد ترامب بالعودة إلى المكتب البيضاوي، فعودته ستحمل معها مرحلة سوداء للولايات المتحدة ولمنطقتنا وللعالم بأسره.
يمكن لفترة رئاسية ثانية لترامب أن تعيد تشكيل السياسة الأميركية بشكل جذري، مع تداعيات كبيرة على حرية الصحافة، وأمن السلاح، وحقوق الإجهاض، والهجرة، وحماية المرأة. لا يخفي ترامب عداءه تجاه الإعلام الرئيسي، وقد يؤدي إعادة انتخابه إلى تصعيد هجماته على حرية الصحافة، بما في ذلك إجراءات عقابية محتملة ضد بعض وسائل البث. كما أن إجراءات بايدن لسلامة السلاح، مثل إنشاء مكتب الوقاية من العنف المسلح، قد تكون مهددة، حيث من المرجح أن يلغي ترامب هذه المبادرات.
فيما يتعلق بالإجهاض، فلن يتردد ترامب في إحياء قانون كومستوك لعام 1873 لفرض قيود وطنية على أدوية الإجهاض. وقد تشهد سياسات الهجرة تحولا جذريا، حيث يدعو ترامب إلى عمليات ترحيل جماعي واحتمال استخدام القوات العسكرية في إنفاذ الحدود.
علاوة على ذلك، قد تؤدي إعادة انتخاب ترامب إلى ردود صارمة على الاحتجاجات، بما في ذلك قمع عسكري للمظاهرات، وقد تزعزع الاستقرار في السياسة الخارجية، مع تهديدات محتملة لوحدة حلف الناتو وزيادة عدم الاستقرار في التحالفات الدولية. بشكل عام، قد تؤدي فترة ثانية لترامب إلى تعزيز الأجندات المحافظة في السياسات الداخلية والخارجية، مما يؤثر على الحقوق الأساسية واستقرار العالم.
لذلك كله، أعتقد أن الأميركيين لن يسمحوا له بفعل ذلك، ومن أجل ذلك ستكون هاريس رئيسة الولايات المتحدة، منذ ظهيرة 20 كانون الثاني/يناير القادم.