خاص – يوسف حسن / درعا
في صباح يوم هادئ من عام 2024، كانت الصحفية سارة الأحمد تجهز نفسها للخروج في مهمة صحفية بمحافظة درعا جنوبي سوريا. لكن، بالنسبة إلى سارة، كل مهمة صحفية هي معركة من نوع آخر، حيث لا يمكنها استخدام اسمها الحقيقي، ولا يمكنها التنقل بحرية، أو العمل من دون حذر شديد.
تعمل سارة تحت اسم مستعار خوفاً من الحكومة السورية، وهو ما يفعله العديد من الصحفيين في المحافظة. وعلى الرغم من هذه المخاطر، تواصل عملها في توثيق ما يجري هناك ونقل معاناة الأهالي. لكن الظروف التي تعمل فيها قاسية للغاية، فهي تخشى من أن أي خطأ “قد يعرض حياتي وحياة من حولي للخطر”، كما تقول الأحمد لـ “963+”.
تضيف: “الوضع الأمني هناك لا يسمح للصحفيين بالعمل بحرية، إذ تُحاط المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بحواجز أمنية تمنع أي صوت غير موالٍ”.
وفي حين يملك الصحفيون الموالون للحكومة القدرة على التنقل والحصول على المعلومات، يكافح المعارضون للعثور على الحقائق، إذ يُمنعون من التصوير أو الحصول على الوثائق التي تدعم رواياتهم. لكن، رغم هذا كله، “ترحب اللجان المركزية والمجتمع المحلي في درعا بالصحفيين، شرط أن يعرفوا الجهة التي يعملون لصالحها”، بحسب الأحمد، مضيفةً: “هذا الترحيب يأتي مع تحذير بعدم تصوير أو كتابة تقارير تضرّ بأهل المنطقة، ما يضع الصحفيين في موقف حرج بين الرغبة في توثيق الحقيقة وبين حماية مجتمعهم”.
لتجاوز هذه التحديات، تدرك الأحمد أهمية بناء شبكة واسعة من العلاقات، “فالصحفي الذي يسعى إلى تحقيق النجاح في عمله يحتاج إلى أصدقاء ومصادر موثوقة في مختلف أنحاء المحافظة، بل وحتى في دوائرها الرسمية”، مشيرةً إلى أن هذه العلاقات تمنحه القدرة على الحصول على المعلومات والوثائق من دون أن يعرّض هويته للخطر، أو أن يضع مصادره في مأزق.
وتستطرد الأحمد في سردها، قائلةً إن هذه الصعوبات “أسفرت عن ضعف التغطية الإعلامية في مجالات السياسة والاجتماع والثقافة، فالكثير من أبناء المحافظة يخشون من الاعتقال إذا ما تم تصويرهم أو إذا ظهرت أسماؤهم في التقارير، ما يزيد من التعقيدات التي تواجه الصحفيين المعارضين”.
وعلى الرغم من هذه الأجواء القاسية، يواصل الصحفيون المعارضون للحكومة السورية في درعا عملهم منذ بداية الحرب السورية في ربيع عام 2011، رافضين مغادرة المحافظة، ويقاومون محاولات إسكاتهم، ويعملون بجدّ لتوثيق الانتهاكات ونقل معاناة المواطنين. تؤكد الأحمد، في هذا السياق، أن التحقّق من المعلومات الموزعة في التقارير الصحفية يعتمد بالأساس على أبناء المنطقة، خصوصاً الناشطين الذين يعرفون تفاصيلها بشكل كامل.
لكن، لا تقتصر التحديات على القضايا الأمنية وحدها، بل يمتد الأمر إلى التقنية أيضاً. فضعف الإنترنت في المحافظة عقبة كبيرة، إذ يستغرق تحميل الصور والفيديوهات وقتاً طويلاً، علاوة على القلق من مراقبة حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُدار الشبكة من شركات موالية للحكومة.
وعندما تسلط الأحمد الضوء على الوضع القانوني، تستبعد وجود تشريعات حقيقية تدعم الصحفيين في درعا، حيث تظلّ الأجهزة الأمنية القوة الفعلية التي تتحكم بتفاصيل عمل الصحفيين وتفرض الرواية التي ترغب بها، وتختم الأحمد متكلماً عن الخوف الذي يلازم الصحفيين، ليس في درعا وحدها، بل في جميع أنحاء البلاد.
القمع الأمني وغياب الحريات
تعيش محافظة درعا، التي كانت منطلقاً للتظاهرات ضد الحكومة السورية في عام 2011، تحت وطأة السيطرة الأمنية. يصف أيمن أبو محمود، الناطق باسم تجمع أحرار حوران، الوضع هناك لـ”963+” بقوله إن “الصحفيين في درعا يتعرضون لتهديدات مستمرة تشمل الاعتقال والاغتيال والملاحقات الأمنية من قبل الحكومة، كما يواجهون الابتزاز والتهديد، من دون وجود قوانين أو تشريعات تحميهم أو تدعم حرية “.
وهذا الوضع الصعب لا يقتصر على نظام الحكم المركزي فحسب، بل يمتد ليشمل سلطات الأمر الواقع، بما في ذلك الفصائل العسكرية المختلفة المتواجدة في المحافظة.
ويشير أبو محمود إلى أن الصحفيين الذين يحاولون انتقاد المجموعات المسلحة، مثل اللواء الثامن أو تنظيم “داعش” المصنف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي عدد من الدول العربية والآسيوية، يتعرضون لضغوط وتهديدات، وهذا يضاعف القيود على عملهم، مضيفاً: “هذه الفصائل تعمل بطرق مباشرة وغير مباشرة على منع الصحفيين من تغطية الانتهاكات التي تحدث في المناطق التي تسيطر عليها، ما يحد من التغطية الصحفية ويضعف الموضوعية”.
أين الحماية؟
غياب الحماية القانونية للصحفيين يعد من أكبر التحديات التي يواجهونها. يقول أبو محمود إن غياب أي إطار قانوني يحمي الصحفيين أدى إلى “تفاقم وضعهم وجعلهم أكثر عرضة للعنف”، وهذا دفع بالعديد من الصحفيين إلى مغادرة البلاد، أو التخلي عن العمل في هذا المجال، خوفاً من الاعتقال أو القتل.
فالأوضاع الأمنية في درعا تفرض على الصحفيين التخلي عن تغطية القضايا الحساسة، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على جودة التقارير الصحفية التي تصدر من المحافظة.
وفي هذا السياق، يشير أبو محمود إلى أن محاولات بعض المنظمات الدولية لتوفير الحماية للصحفيين “باءت بالفشل”، قائلاً: “الحكومة السورية لا تحترم هذه المنظمات ولا تسمح لها بالقيام بأي دور فعال في حماية الصحفيين أو تسهيل عملهم. وفي ظل غياب الحماية المحلية أو الدولية، يجد الصحفيون أنفسهم محاصرين بين القمع الأمني الحكومي والضغوطات العسكرية من الفصائل المتحاربة”.
ومع كل هذه التهديدات، يلجأ الصحفيون إلى استراتيجيات بديلة للحفاظ على سلامتهم واستمرارهم في العمل، “فيعتمدون على شبكات اتصال موثوقة لجمع المعلومات بأقل قدر من المخاطر”، بحسب أبو محمود.
احترام ملحوظ
تعمل الصحفية فاطمة الحربات مراسلة لقناة “العالم” الإيرانية، ولا تجد ما يعيق عملها “إلا في أرياف محافظة درعا التي تشهد توتراً مستمراً، لأن شروط المصالحة الوطنية لم تُنفذ بشكل كامل”، مضيفة لـ”963+”: “أصبح الإعلام المحلي يركز بشكل أكبر على القضايا الخدمية في المدينة أو في بعض المناطق الآمنة من الأرياف، وأنا أقصر عملي على تغطية الأحداث داخل مركز المدينة بسبب مخاطر الأرياف، خصوصاً أنني أستخدم كاميرا تحمل شعار قناة ’العالم‘”.
وتنوه الحربات إلى وجود نقص في الدعم اللوجستي والبنية التحتية التي تساعد على تغطية الأحداث، “سواء في المدينة أو في بعض المناطق الآمنة في الأرياف”، مؤكدةً أنها لم تتعرض لأي ضغوط في أثناء عملها الإعلامي، “فثمة احترام ملحوظ للصحفيين في درعا، لكن هناك صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على تحريف الحقائق لصالح جهات معينة، نظرًا لحساسية موقع درعا الجغرافي”.
كما تشدد على أهمية وجود وسائل إعلام موثوقة، سواء كانت محلية أو خارجية، لمواكبة الأحداث بدقة، وتقديم معلومات مستندة إلى مصادر أمنية ومحلية ذات صدقية، لتختم حديثها بالدعوة إلى توسيع نطاق حرية الصحافة في درعا، ليتمكن الصحفيون من تغطية كافة القضايا الأمنية بشكل شامل، بما في ذلك عمليات الاغتيال والتوترات المستمرة، مع تسهيل وصولهم إلى المعلومات والتصريحات من الجهات الأمنية لتوضيح الوضع الأمني في المحافظة”.
ضحايا القمع
أصدر مكتب “توثيق الشهداء في درعا” تقريراً يكشف عن عدد الضحايا الصحفيون المحليون منذ انطلاق الحرب السورية.
ويوضح محمد الشرع، عضو المكتب، لـ”963+” أن 179 ناشطاً إعلامياً قُتلوا منذ بداية الحرب في عام 2011، منهم 141 قتلوا برصاص القوات الحكومية قبل اتفاق التسوية في صيف عام 2018، و16 قتلوا بعد الاتفاق. كما وثق المكتب مقتل 22 ناشطاً إعلامياً في اغتيالات نفذها مجهولون أو نتيجة الاقتتال بين الفصائل المعارضة، ما يعكس مدى خطورة العمل الإعلامي في درعا.
وعلى الرغم من العدد الكبير للضحايا، يشير أبو محمود إلى “وجود تقصير كبير من قبل المنظمات الصحفية ومنظمات حقوق الإنسان في تسليط الضوء على معاناتهم”.
ويقول إن هذه المنظمات “تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتوفير الحماية المباشرة للصحفيين، وإن دعمها يقتصر غالباً على حملات إعلامية وتوثيق حقوقي، بينما يحتاج الصحفيون إلى دعم تقني ومالي لتسهيل عملهم وتخفيف المخاطر”.
وثمة دعوات مستمرة من الصحفيين والمنظمات الإعلامية لتوفير آليات حماية دولية، ولكن الاستجابة لهذه المطالب “لا تزال محدودة جداً”، مشيراً إلى أن الحلول المقترحة تشمل تقديم المجتمع الدولي دعماً ديبلوماسياً وممارسة ضغط على الحكومة، وتوفير برامج لجوء مؤقتة للصحفيين الذين يحتاجون إلى الحماية الفورية”.
وتستمر سوريا في كونها واحدة من أخطر البلدان على حياة الصحفيين، حيث تحتل المرتبة 179 من أصل 180 في تصنيف حرية الصحافة. ويُعتقد أن أكثر من 25 صحفياً لا يزالون محتجزين في سجون الحكومة السورية، بينما يُعتبر 6 مختفين قسرياً و3 مفقودين، وتم توثيق مقتل 9 صحفيين في سوريا خلال هذا العام، وإصابة 25 آخرين بجروح.
وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في قرارها 68/163 الذي حثت فيه الدول الأعضاء على تنفيذ تدابير محددة لمواجهة ثقافة الإفلات من العقاب الحالية وقد اختير التاريخ احتفالا باغتيال صحفيين فرنسيين في مالي في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 .
ويدين هذا القرار جميع الهجمات والعنف ضد الصحفيين والعاملين في وسائط الإعلام. وتحث أيضا الدول الأعضاء على بذل قصارى جهدها لمنع العنف ضد الصحفيين والعاملين في وسائط الإعلام، وكفالة المساءلة، وتقديم مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين والعاملين في وسائط الإعلام إلى العدالة، وضمان حصول الضحايا على سبل الانتصاف المناسبة. وتطلب كذلك إلى الدول أن تعمل على تهيئة بيئة آمنة وتمكينيه للصحفيين لأداء عملهم بصورة مستقلة ودون تدخل لا داعي له .