خاص – طاهر علي/دمشق
حلمت “سارة” دائماً بأن تكون طبيبة. كانت تراودها صورة طبية مثالية: ترتدي مريولًا ناصع البياض، وتذهب إلى عملها يومياً وهي ترتدي فستاناً وكندرة أنيقين، كما في الأفلام. لكن، مع مرور الوقت، بدأت الصورة تتغير، وحقيقة الواقع الصعب الذي ينتظرها تتكشف.
سارة (27 عاماً) طبيبة متخصصة في الطب الداخلي، تعمل في أحد مشافي دمشق. تقول لـ”963+”: “كان عليَّ استبدال الرداء الأبيض بسترة مضادة للرصاص لمواجهة التعنيف النفسي والجسدي الذي نتعرض له نحن الأطباء يومياً، من دون حماية، ومن دون مساءلة”.
فضلت سارة، مثل غيرها من الأطباء، عدم الكشف عن هويتها الحقيقية، إذ صار حديث الأطباء العلني عن مشكلاتهم في سوريا يعرضهم لمخاطر كبيرة، فإدارات المشافي تراقب كل ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي بعناية، ما يعرض الأطباء لعقوبات هم في غنى عنها.
طبيب مقيم: عبء لا يُحتمل
في سوريا، يعيش الطبيب المقيم حياة استثنائية تختلف عن حياة غيره من الموظفين. في العادة، يلتزم الطبيب المقيم نوبات مناوبة تصل إلى 12 أو حتى 17 مناوبة في الشهر الواحد. وقد تمتد فترة مناوبته 24 ساعة متواصلة، ثم يلتحق بعمل إداري ست ساعات في باقي الأيام، وكل ذلك مقابل راتب ضئيل جداً، لا يتجاوز 20 دولاراً شهرياً، كما يؤكد العديد من الأطباء الذين تحدثوا إلى لـ”963+”.
الأمر لا يتوقف عند الرواتب المتدنية. فحتى النوم بعد ساعات طويلة من العمل يصبح مهمة شبه مستحيلة. تقول سارة: “في المناوبات الأولى، أدركت أنني لن أستطيع النوم على سرير مريح. كنت أمضي ساعات أبحث عن مكان للنوم، وغالباً ما كنت أجد سريراً بفرشة مهترئة، أضطر لمشاركته مع الصراصير والروائح الكريهة”.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فتضيف: “حتى الحمام أصبح حلماً، حيث يصعب العثور على حمام لا يغرق بالمياه الملوثة والحشرات”.
طبيعة العمل والاحتراق النفسي
إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه الأطباء في سوريا هي الاحتراق النفسي. أظهرت دراسة أجريت في الجامعة الافتراضية السورية في عام 2019، شملت 3350 طبيباً مقيماً في 12 مشفى في 8 محافظات سورية، أن نحو 93.75% من الأطباء المقيمين يطهرون مؤشراً واحداً على الأقل من مؤشرات الاحتراق النفسي.
وبلغت نسبة من يعانون من احتراق نفسي حاد نحو 19.3%، وهذه نسب عالية تتجاوز المعدلات العالمية كثيراً.
“محمد” طبيب داخلية عامة، تنقل بين مشافي دمشق وطرطوس. يقول لـ”963+”: “الأطباء المقيمون هم العمود الفقري للمشافي، لكن لا أحد يهتم بهم. الكثير من مديري المشافي يرون في مناصبهم فرصة للانتفاع الشخصي، وينصب اهتمامهم على مصالحهم الخاصة”.
ويوضح “محمد” أن تحديد عدد الأطباء المقيمين في المشافي يعتمد غالباً على قدرتها على توفير السكن والإطعام، وليس على احتياجات المشفى الحقيقية.
إطعام سيء أو غير موجود
الإطعام في المشافي السورية يمثل تحدياً آخر للأطباء. “لانا” طبيبة أطفال تعمل في مشفى تشرين الجامعي باللاذقية، تقول لـ”963+”: “في مطعم المشفى، نشعر كأننا جزء من قطيع ماشية، نصطف في طابور طويل لنحصل على طبق طعام بالكاد يحتوي على لحم”، مضيفةً أنها لم تعد تتناول الطعام في مطعم المشفى منذ ثلاث سنوات، بسبب سوء الطعام المقدم.
في بعض المشافي الأخرى، مثل مشافي حمص، الوضع أسوأ. يشير “راجي”، وهو طبيب جراحة مقيم، إلى أن مشافي حمص “لا تقدم أي طعام للأطباء، والسكن المخصص لهم غير موجود”. ويضيف لـ”963+”: “إذا كان الطبيب يسكن في ريف حمص أو في مدينة أخرى، فعليه استئجار سكن على نفقته الخاصة، ما يضع عليه عبئاً إضافياً يفوق راتبه كثيراً”.
رواتب لا تغطي الاحتياجات
الرواتب التي يتقاضاها الأطباء المقيمون في سوريا لا تكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية. يقول راجي: “لا يمكن استئجار غرفة بسعر أقل من 300 ألف ليرة (20 دولاراً تقريباً) شهرياً، في حين أن راتب الطبيب لا يتجاوز 300 ألف ليرة”.
مع ذلك، لا تزال المشافي تتأخر في صرف “طبيعة العمل” التي صدر بها مرسوم رئاسي في آب/ أغسطس 2023، والتي كان يفترض بها أن تضاعف رواتب الأطباء المقيمين.
ويقضي المرسوم بمنح الأطباء البشريين العاملين أو المتعاقدين في المشافي والمراكز الصحية التابعة لوزارات (الداخلية -الدفاع – التعليم العالي والبحث العلمي – الصحة) تعويض طبيعة عمل بنسبة 100% من الأجر الشهري المقطوع بتاريخ أداء العمل.
لكن، كما أكد العديد من الأطباء، هذه التعويضات “لم تصرف بعد في الكثير من المشافي، خصوصاً تلك التابعة لوزارة التعليم العالي”.
لم تكن مشافي الحكومة في سوريا مجانية تماماً، إذ كان يُتفق على مبلغ يُدفع بين المريض والطبيب الجراح قبل إجراء العملية. أما اليوم، فقد ازدادت التكاليف بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، يشير أطباء من مشفى الباسل في طرطوس إلى أن تكلفة الفحص العادي ارتفعت من 250 إلى 10,700 ليرة سورية (من أقل من سنت واحد إلى 70 سنتاً). وقد تصل تكاليف الدخول إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية إلى 500 ألف ليرة (35 دولاراً تقريباً)، ما يزيد من العبء على المرضى الفقراء، ويشكك الكثيرون في أن هذه الزيادات ستنعكس على تحسين خدمات المشافي أو زيادة رواتب الأطباء.
البيروقراطية والإهانات اليومية
“إسراء” طبيبة مقيمة في مشفى تشرين الجامعي، تتعامل مع مشكلة أخرى هي البيروقراطية المتفشية في المشافي. تقول لـ”963+”: “من أكثر الأمور التي كانت تزعجني في السنة الأولى هي أنني كنت مضطرة لنسخ الأوراق يدوياً، لأن آلات التصوير في المشفى بقيت معطلة سنوات”. وتضيف أن هذه المشكلة ليست حكراً على مشفى تشرين، بل يعاني منها العديد من زملائها في المشافي الأخرى.
في ظل هذه الظروف الصعبة، أصبح خيار الهجرة هو الحل الوحيد أمام الكثير من الأطباء السوريين. يقول “محمد”، نائب رئيس الأطباء المقيمين في أحد مشافي دمشق: “لا يمكننا أن نتوقع من طبيب يتعرض للإهانات والمشاق يومياً أن يكون في حالة نفسية جيدة للتعامل مع مرضاه”، مشيراً في حديث لـ”963+” إلى أن معظم الأطباء السوريين “باتوا يحلمون بالسفر إلى ألمانيا، حيث تحترم مهنة الطب وتُقدّر الجهود المبذولة على هذا الصعيد”.
محمد حسن طبيب مقيم في حلب، يقول لـ”963+”: “جميع طلاب الطب والأطباء المقيمين يفكرون في السفر. ومشروع فتح عيادة خاصة في سوريا أصبح مستحيلاً، إلا للأطباء الأغنياء أو أبناء الأطباء القدامى”. ويضيف أن والده اضطر لبيع ممتلكاته لتأمين تكاليف السفر والدراسة في الخارج، والبالغة 12500 يورو، يُضاف إليها 5000 يورو لمصاريف السفر وحجز مقررات اللغة.
ويشير موقع “The Global Economy“ في تقرير سابق له إلى أنّ سوريا تتصدر الدول العربية في هجرة الكفاءات إلى الخارج، حيث تجاوزت أعداد الأطباء السوريين في ألمانيا حاجز 6 آلاف طبيب.
ولهجرة الأطباء تأثير سلبي كبير على النظام الصحي في سوريا. يقول حسن لـ”963+”: “بسبب الانشغال بالتحضير للهجرة، أصبح الأطباء المقيمون مشوشين وغير قادرين على التركيز في عملهم ودراستهم”.
ويضيف: “يؤثر تدني جودة التعليم الطبي وتدريب الأطباء الشبان على الأجيال المقبلة.
تعلّق الدكتورة هدى طحلاوي، أخصائية الجلدية والتجميل، على صفحتها الشخصية في فيسبوك قائلة: “هجرة الأطباء الجدد من بلادنا مأساة ستظهر نتائجها بعد عشر سنوات، عندما يتقاعد الأطباء الكبار، وسيجد الناس صعوبة في العثور على أطباء جيدين لعلاجهم”.