يعتبر التعافي والسلامة البيئية في سوريا بعد 14 عاماً من حرب استخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة بما فيها الكيماوية عملية معقدة تتطلب الكثير من الجهود والتحديات والخطط المدروسة للخروج ما وصفها الكثيرون بـ “الكارثة” التي ستؤثر بشكل مباشر على جوانب عديدة.
وتعرضت البلاد لكارثة وآثار خطيرة وضارة بسبب كثرة استخدام الأسلحة الحربية وما تحمله من مواد سامة انتشرت ولوثت التربة والماء والهواء، وكذلك أضرت بالنظم البيئية والتنوع البيولوجي، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بمصافي تكرير النفط وما أعقب ذلك من الاعتماد على مصافي نفط مؤقتة تسببت بدرجة عالية من التلوث يضاف إلى ذلك سوء إدارة النفايات والمياه.
والأضرار البيئية الناتجة عن الحرب في سوريا لم تحظى بقدر كبير ومناسب من الاهتمام من قبل المنظمات المحلية أو الدولية الرسمية والمعنية، وسط تحذيرات من أن تخلف هذه الأضرار تأثيرات سلبية طويلة الأجل على الصحة العامة والاقتصاد وإعادة الإعمار والبناء.
وبحسب دراسة استقصائية نشرتها مبادرة “الإصلاح العربي”، في 7 أبريل / نيسان 2021 تحت عنوان “الآثار البيئيّة للصراع السوري، أكدت فيه أن سوريا كانت تعاني قبل عام 2011 من مستويات عاليّة من تلوث الهواء بسبب الانبعاثات الصناعيّة وعوادم المركبات وحرق النفايات والتلوث الموسمي، ممّا تسبب بالعديد من الأمراض المزمنة للسوريين، مشيرة إلى أن سوريا احتلت المرتبة “18” بين أكثر الدول تلوثاً في العالم عام 2019.
وفي حوار خاص لـ “963+”، مع الخبيرة العالمية في الأبحاث البيئية، نجاة عون صليبا التي تحدثت عن خطط التعافي البيئي وكلفته والتحديات التي تواجه سوريا في هذا الإطار بعد 14 عاماً من الصراع، وكيف يمكن إدارة الظروف البيئية بالشكل المناسب خلال الفترة المقبلة؟
وفيما يلي الحوار كاملاً:
ما تأثيرات استخدام كافة أنواع الأسلحة في الحرب السورية على السلامة البيئية؟
أدّت الحرب السورية إلى تدمير واسع للبنية التحتية البيئية نتيجة استخدام مختلف أنواع الأسلحة التقليدية والكيميائية، إلى جانب تفجير المنشآت الصناعية والعسكرية. غير أن معظم الانبعاثات الغازية الناتجة عن القصف أو التفجيرات قد تبخرت مع مرور الوقت، مما يجعل تتبع آثارها المباشرة صعباً حالياً، إلا إذا استمرت الانبعاثات من مصادر ثابتة، مثل المولدات الكهربائية، حرق النفايات الصلبة، أو المنشآت الصناعية غير المنظمة. واستمرار هذه الانبعاثات يعود في الأساس إلى غياب القوانين البيئية الرادعة وسوء الإدارة العامة للموارد.
أما بالنسبة للملوثات الكيميائية، فإن آثارها تبقى واضحة في التربة، وبدرجة أقل بالمياه الراكدة أو الجوفية، لكنها نادراً ما تُكتشف في المياه الجارية بسبب سرعة تدفقها. وتشمل التأثيرات البيئية الأخرى تلوّث الهواء، تدهور الغطاء النباتي، انقراض بعض الأنواع الحية، وتدمير المواطن الطبيعية.
ماهي خطط التعافي البيئي وكلفته في سوريا خاصة مع غياب الدعم الدولي؟
في ظل توقف التمويل الدولي وانعدام خطة حكومية واضحة، تنفّذ بعض المنظمات غير الحكومية مبادرات بيئية جزئية، لكنها تفتقر إلى التكامل والتوجيه الوطني. ولهذا، هناك حاجة عاجلة إلى استراتيجية وطنية بيئية موحدة تقوم على: حوكمة واضحة المعالم، تنسيق جهود جميع الجهات الفاعلة (محلية ودولية)، تعظيم دور المجتمع المدني، تحديد أولويات التدخل استناداً إلى مسح علمي شامل.
وتُقدّر تكلفة التعافي البيئي الأولي في سوريا بـما لا يقل عن 25 مليار دولار، وقد ترتفع الكلفة الفعلية إذا تم احتساب الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالتدهور البيئي.
هل المناطق السورية التي تعرضت لضربات كيميائية يمكن معالجتها، وما تأثير ذلك على المنطقة والسكان؟
يمكن معالجة جميع المناطق التي تعرّضت لهجمات كيميائية، لكن ذلك يتطلب موارد ومعرفة دقيقة بالأضرار البيئية والصحية. وتكمن الأولوية في إجراء: رسم خرائط دقيقة للتلوث في الهواء والماء والتربة، تحليل كيميائي للمخلفات والملوثات، دراسة وبائية شاملة لرصد الأمراض المزمنة الناتجة عن التعرض طويل الأمد للمواد الكيميائية مثل السارين والكلور.
ووجود مثل هذه البيانات سيمكن من التخطيط الفعال وتحديد الأولويات، كما أن الفشل في ذلك سيؤدي إلى أضرار صحية متفاقمة وغير مرصودة.
ما مدى انتشار الأمراض التنفسية والجلدية في سوريا بسبب استخدام الأسلحة المحتوية على غاز السارين والكلور؟
الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية أدى إلى انتشار واسع لأمراض خطرة، خاصة في المناطق المستهدفة. حيث أن غاز السارين يسبب اختناقاً عصبياً حاداً، وقد يخلّف آثاراً عصبية ونفسية طويلة الأمد تشمل فقدان الذاكرة، اضطرابات الحركة، والصرع، كما أن غاز الكلور يؤدي إلى تهيّج حاد في الجهاز التنفسي، التهابات مزمنة، وأمراض رئوية قد تكون مميتة في حالات التعرّض المكثف.
وتشير تقارير منظمات الصحة الدولية إلى وجود ارتفاع ملحوظ في نسب الأمراض التنفسية والجلدية المزمنة، لا سيما بين الأطفال وكبار السن، مع غياب شبه كامل للرصد الصحي الممنهج.
ماهي أبرز التحديات البيئية التي تواجه سوريا بعد 14 عاماً من الصراع؟
سوريا تواجه اليوم واقعاً بيئياً هشّاً ومعقداً نتيجة تراكم سنوات الحرب. ومن أبرز التحديات:
- تلوث التربة والمياه بالمعادن الثقيلة والمركبات السامة.
- انهيار شبكات الصرف الصحي وشح المياه الآمنة.
- انتشار النفايات الطبية والصناعية بشكل عشوائي.
- فقدان الغطاء النباتي والتنوع البيولوجي.
- التصحر وارتفاع درجات الحرارة وزيادة الحرائق.
- ضعف أو غياب الحوكمة البيئية في معظم المناطق.
كيف يمكن إدارة الظروف البيئية بالشكل المناسب في سوريا خلال الفترة المقبلة؟
ينبغي أن تقوم الإدارة البيئية في سوريا على رؤية استراتيجية مبنية على البيانات العلمية والتخطيط التشاركي. ويشمل ذلك: إطلاق مسح وطني بيئي شامل يشمل كافة المناطق، باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد، وتحليل العينات، وربطها بالبيانات الصحية، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للبيئة تُنسّق بين الوزارات، البلديات، والمنظمات، إلى جانب تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في أعمال الترميم وإدارة الموارد ودمج القضايا البيئية في خطط الإعمار والتنمية الاقتصادية لضمان الاستدامة والعدالة البيئية.
ما تقديرات التكلفة الاقتصادية نتيجة التدهور البيئي والمخاطر الصحية؟
تُظهر تقديرات البنك الدولي والمؤسسات البحثية أن الخسائر الاقتصادية الإجمالية قد تتجاوز 100 مليار دولار، وتشمل:
- خسائر مباشرة في الإنتاج الزراعي والمائي.
- تكاليف صحية طويلة الأمد للأمراض الناتجة عن التلوث.
- انخفاض القدرة الإنتاجية للسكان بسبب الأمراض والعجز.
- ارتفاع كلفة إعادة تأهيل البنية التحتية البيئية.
- خسائر غير مباشرة مرتبطة بفقدان التنوع البيئي وخدمات النظم البيئية.
وفي النهاية، لا يمكن فصل الأزمة البيئية في سوريا عن أزمات الصحة، الغذاء، والنزوح. ولذلك، فإن الاستجابة البيئية ليست خياراً تقنياً بل أولوية إنسانية وسياسية. ومن دون تدخل منظم قائم على البيانات، فإن الأضرار ستستمر في التفاقم، وستعرقل أي أمل في تعافٍ شامل ومستدام
