خاص ـ القنيطرة
قصف الجيش الإسرائيلي، مساء أمس الثلاثاء، بسلاح المدفعية مواقع في بلدة الحضر بريف القنيطرة، جنوبي سوريا، يأتي ذلك في إطار تصعيد إسرائيلي في المنطقة الجنوبية في سبيل إفراغها بشكل كامل من الفصائل الإيرانية و”حزب الله” اللبناني، خاصة بعد انسحاب روسيا من بعض مراكز المراقبة في المنطقة، وما تبعها من توغلات إسرائيلية في القنيطرة.
واستهدف قصف إسرائيلي أمس، مناطق زراعية في البلدة المحاذية لمنطقة الجولان، وتزامنت مع استمرار الجيش الإسرائيلي بعمليات تجريف وحفر خنادق بمحاذاة المنطقة المنزوعة السلاح في الجولان السوري.
وسبق أن تعرضت عدة مناطق في ريف القنيطرة، وآخرها بلدة القحطانية يوم الأحد الفائت، لقصف مدفعي إسرائيلي طاول بمعظمه المناطق القريبة من السياج الأمني الذي بدأت القوات الإسرائيلية بتعزيزه.
وشهدت محافظة القنيطرة السورية، القريبة من الحدود مع الجولان المحتل، تطورات لافتة في الأسابيع الماضية، حيث انسحبت القوات الروسية بشكل مفاجئ من مواقع استراتيجية عدة في المحافظة.
هذا الانسحاب جاء وسط تصاعد الغارات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع “حزب الله” اللبناني والفصائل الموالية لإيران في سوريا.
ورغم أن الانسحاب الروسي أثار الكثير من التساؤلات، إلا أن الخبراء يؤكدون أنه يمثل تحولًا ذا تأثيرات سياسية وعسكرية كبيرة على الأوضاع في الجنوب السوري.
الانسحاب الروسي: أسباب وتداعيات
بحسب مصادر عسكرية سورية، فإن الانسحاب الروسي شمل مغادرة مواقع استراتيجية مهمة، مثل تل الحارة وتل الشعار وتل مسحرة، وجميعها تعتبر نقاط مراقبة استراتيجية تتيح للروس مراقبة التحركات العسكرية في المنطقة الحدودية.
كما أشارت تقارير إلى أن الانسحاب جاء نتيجة تفاهمات بين موسكو وتل أبيب، بهدف تفادي أي تصعيد عسكري قد يندلع بسبب الوجود الإيراني المتزايد في المنطقة.
في هذا السياق، قال بشار علي الحاج علي، ديبلوماسي سوري سابق، لموقع “963+” أن “الانسحاب الروسي من القنيطرة لا يعكس تغيراً استراتيجياً في السياسة الروسية بقدر ما يشير إلى رغبة موسكو في تقليل التزاماتها العسكرية في سوريا وعدم قدرتها على ضمان الحماية الكاملة لحلفائها السوريين والإيرانيين”.
وأضاف أن “روسيا تتطلع إلى الحفاظ على توازن بين دعم الحكومة السورية وتجنب التورط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل”.
أهمية الجنوب السوري: البعد العسكري والسياسي
ويتألّف الجنوب السوري من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، وهو متاخمٌ للأردن، ومرتفعات الجولان الواقعة تحت سيطرة إسرائيل. لذلك، من يسيطر على هذه المنطقة يكتسب نفوذاً استراتيجياً كبيراً، خاصةً مقابل الأردن وإسرائيل.
وتتمتّع الأجزاء غير الخاضعة لإسرائيل في القنيطرة بقيمة استراتيجية كبيرة، لأنها تقع على أراضٍ مرتفعة بالقرب من خط فك الاشتباك الذي تم تحديده بعد الحرب العربية الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973 بين الجيشَين السوري والإسرائيلي. ويعني قربها من الجولان أن القوات والبلدات الإسرائيلية معرَّضة للهجمات من القنيطرة.
وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن السيطرة على هذه المنطقة تتيح لها مراقبة الأنشطة العسكرية السورية والإيرانية بشكل دائم، كما تمنحها قدرة سريعة على الرد على أي تهديدات محتملة.
التوغل الإسرائيلي: استفادة من الفراغ الروسي
بالتزامن مع انسحاب القوات الروسية، شهدت المنطقة زيادة في التوغل الإسرائيلي، حيث توغلت القوات الإسرائيلية عدة مرات داخل الأراضي السورية في ريف القنيطرة الشمالي، وقامت ببناء تحصينات وحفر أنفاق ورفع سواتر ترابية في مناطق قريبة من الحدود السورية.
ورغم أن هذه التحركات تمت تحت أنظار القوات الحكومية السورية، إلا أن الرد السوري كان غائباً بشكل لافت، وهو ما أثار تساؤلات حول موقف دمشق من التوغل الإسرائيلي المتزايد.
ونفى خالد أباظة، أمين فرع حزب البعث في القنيطرة، في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، أن يكون هناك أي توغل إسرائيلي في المحافظة، معتبراً أن ما يتم تداوله في الإعلام “مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة”.
ومع ذلك، فإن هذا النفي يعكس رغبة الحكومة السورية في تجنب تصعيد الوضع مع إسرائيل أو الدخول في مواجهة عسكرية قد تكون نتائجها غير محسوبة، ويعتقد مراقبون أن صمت دمشق حول التوغلات الإسرائيلية قد يعود إلى تفاهمات ضمنية بين الحكومة وروسيا، تسعى لتجنب فتح جبهة جديدة مع إسرائيل في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى إعادة بسط سيطرتها على مناطق أخرى في البلاد.
كما يعتبر محللون أن نفي التوغل الإسرائيلي جزء من استراتيجيته للتحكم في المعلومات المتداولة حول الوضع الأمني. إذ إن الاعتراف بتوغل كهذا قد يضعف من موقف دمشق ويعطي انطباعا بعدم القدرة على حماية الأراضي السورية.
ويرى محللون آخرون أن النفي يأتي في سياق محاولة الحكومة “لتحييد نفسها عن إيران والتطورات الإقليمية. “لأن الاعتراف قد يُفهم على أنه ضعف أمام الضغوط الإسرائيلية، مما قد يؤثر على موقفها في المفاوضات المستقبلية”.
وفي هذا السياق، قال أيمن عبد النور، المدير التنفيذي لمنظمة “مسيحيون من أجل الديمقراطية”، لـ”963+” إن “الحكومة السورية تلقت تحذيرات مباشرة من روسيا بضرورة ضبط حلفائها الإيرانيين في الجنوب السوري، خاصة في منطقة القنيطرة”.
وأشار عبد النور إلى أن “الحكومة السورية تبدو ملتزمة بتعليمات موسكو، وتحاول تجنب الدخول في صراع جديد مع إسرائيل”.
الفصائل الإيرانية و”حزب الله”
مع انسحاب القوات الروسية من بعض المواقع في القنيطرة، تتزايد المخاوف من أن تستغل إيران و”حزب الله” هذا الفراغ لتعزيز وجودهما في المنطقة. إذ تعتبر القنيطرة منطقة مهمة لهذه الفصائل بسبب قربها من الجولان، حيث تسعى إيران لتعزيز وجودها العسكري هناك بهدف تهديد إسرائيل بشكل مباشر.
وبحسب مصادر عسكرية، فإن المجموعات الموالية لإيران تسعى لاستغلال المواقع الاستراتيجية مثل التلال المرتفعة في القنيطرة لتعزيز قدراتها على المراقبة والهجوم في حال اندلاع أي مواجهة مع إسرائيل.
وتخشى تل أبيب من أن تتحول هذه المناطق إلى منصة لإطلاق الصواريخ أو شن هجمات ضد أهداف إسرائيلية في الجولان المحتل.
في هذا السياق، أكد مسؤولون إسرائيليون أنهم يراقبون عن كثب التحركات الإيرانية في المنطقة، وأشاروا إلى أن الانسحاب الروسي قد يفتح الباب أمام عمليات عسكرية إسرائيلية أوسع في المستقبل.
دور قوات اليونيفل (الأندوف) في القنيطرة
وسط هذه التطورات المتسارعة، تتوجه الأنظار إلى قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (الأندوف)، التي تم تأسيسها عام 1974 لمراقبة وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في منطقة الجولان.
وعلى الرغم من أن الأندوف تلعب دوراً مهماً في رصد التحركات العسكرية في المنطقة، إلا أنها ليست قوة قتالية ولا يمكنها التدخل لوقف أي انتهاكات، وتعرضت تلك القوات لعدة انتهاكات خلال الحرب السورية، حيث تم احتجاز أفرادها من قبل جماعات مسلحة، مما أثر على فعاليتها.
وأكد نيرمال ثابا، قائد قوة الأندوف، أن وجود هذه القوة أصبح أكثر أهمية في ظل الوضع المتوتر بين سوريا وإسرائيل، مشيراً إلى أن التنسيق بين الأطراف المعنية ضروري لمنع تصعيد الصراع.
وأنشئت قوة الـ”أندوف” في الـ31 من أيار/ مايو من عام 1974 وهي قوات مراقبة فض الاشتباك تتبع للأمم المتحدة، ظهر عملها ضرورياً عندما ازدادت حال عدم الاستقرار بين سوريا وإسرائيل.
وتسيطر قوات الـ”أندوف” على منطقة منزوعة السلاح بين الجيشين السوري والإسرائيلي بعرض يصل إلى سبعة كيلومترات في أوسع المناطق وإلى 200 متر في “أ”، وتبلغ مساحتها 250 كيلومتراً مربعاً مقسمة إلى ثلاث مناطق إلى الشرق والشمال الشرقي من بحيرة طبرية.
كما تعكف القوات الدولية، التي تتخذ من قرية الفوار المنزوعة السلاح معسكراً لها، على تسيير دوريات لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار بين الطرفين، وفض الاشتباك، وتسيير دوريات أيضاً تشمل مناطق الفصل التي تعد مناطق منزوعة السلاح.
مستقبل القنيطرة بعد الانسحاب الروسي
تشير توقعات مراقبين إلى أن القنيطرة ستظل منطقة ساخنة في الصراع السوري-الإسرائيلي، خاصة بعد الانسحاب الروسي الذي خلق فراغاً أمنياً قد يستغله كل من إيران وإسرائيل.
ويأتي ذلك في ظل مواصلة القوات الإسرائيلية منذ عام 2022 مساعيها في إنشاء شريط أمني من جهة القنيطرة داخل الأراضي السورية شرق خط فك الاشتباك، وعمدت إلى حفر خندق وأنشأت طريقاً سمته طريق “سوفا 53” يخترق الأراضي السورية بعمق كيلومترين اثنين، بينما الخندق يصل عمقه بين خمسة وسبعة أمتار.
واللافت أن القوات الإسرائيلية منذ ذلك العام تحاول تحصين حدودها، ولا سيما مع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر من العام الماضي 2023.
وعليه، يرى محللون أن الحكومة السورية قد تواجه تحديات جديدة في محاولة إعادة بسط سيطرتها على المنطقة، في ظل الضغوط المتزايدة من قبل إسرائيل والوجود الإيراني المتنامي.