خاص – محي الدين ملك/ دمشق
في قلب العاصمة السورية دمشق، تحت “جسر الرئيس”، تختبئ بسطات الكتب التي صارت اليوم جزءاً من حياة المدينة اليومية… تلك البسطات التي تتكدس فيها كتب تحمل بين طيات صفحاتها قصصاً وأرواحاً.
هذا المكان ليس مجرد زاوية، بل هو لوحة تصوّر الحياة الثقافية النابضة في مدينة لا تزال تتأرجح بين الماضي والحاضر. بين الكتب القديمة المصفوفة بعشوائية، والعربات المتناثرة التي تبيع كل شيء، من المشروبات إلى الألبسة، يتردد الناس إلى هذا المكان، وكأنهم يأتون للبحث عن لحظة هروب من واقعهم.
هنا، تجد أشخاصاً من مختلف الشرائح: طلاب جامعات، فنانون، كتّاب وشعراء، وحتى بعض الفضوليين الذين يمرون مرور الكرام. لكن، هناك من يتوقف ليغوص في عالم الكتب التي تُعرض على الرصيف. فما الذي يجعل من هذه البسطات محط اهتمام الجميع؟ وما القصص التي تخفيها تلك الصفحات المهترئة؟
البائع القارئ
أدهم شاب ثلاثيني، لم يكن بائع كتب عادياً، بل كانت الكتب بالنسبة إليه أكثر من وسيلة لكسب العيش، إذ كانت بوابته إلى عالم من المعرفة والشغف. يروي قصته لـ “963+” وكأنه يسرد ملحمة شخصية بدأت بقراءة القصص الخيالية للأطفال، مروراً بكتابات شارلز ديكنز، وصولاً إلى “الرسم بالكلمات” لنزار قباني.
كانت جائحة كورونا هي ما أعاده إلى “بسطته” بعد انقطاع، ليبدأ من جديد ببيع ما لديه من كتب، على أمل أن يُشرك الآخرين في عالمه السحري.
“اليوم، أبيع الكتب وأعتبر كل من يشتري مني صديقاً، وليس مجرد زبون”، كما يقول أدهم بابتسامةٍ هادئة، وكأن كل كتاب يبيعه وسيلة لمساعدة الآخرين على الهروب من “مصيدة التكنولوجيا”، كما يصفها.
يدرك أدهم جيداً أن الكتاب ليس أوراقاً مطبوعة ومجموعة بين ضفتين فحسب، بل هو أداه لتوجيه الإنسان الحديث في زمنٍ بات فيه مشتتاً وضائعاً.
الجمال في مهنة قديمة
عبد الله المبارك بائع كتب آخر، يرى في مهنة بيع الكتب جمالاً خاصاً، بل يعتبرها مهنة “نبيلة، اعتاد عليها العلماء والأشراف في العصور القديمة، وهو مؤمن بأن الكتب تحمل في طياتها عوالم لا يمكن الوصول إليها بغير هذه الصفحات.
يقول المبارك لـ”963+”: “في سوق الكتب المستعملة، الجودة والندرة هما الأهم”، وهو يبدو متفائلاً بأن الناس “يعودون دائماً إلى الكتب، مهما تقدمت التكنولوجيا”. وبالنسبة إليه، لا يتعلق الأمر ببيع الكتب بقدر ما يتعلق بتوفير عناوين قديمة ونادرة تجذب القارئ الباحث عن شيء مختلف.
إن التفاعل مع الزبائن وتلبية احتياجاتهم يجعله يشعر بأن بسطته “ليست مكاناً للبيع، بل محطة تجمع الناس المهتمين بالمعرفة”.
جزء من الهوية
في أحد زوايا البسطة، كان طارق فاعوري يتجول بين الكتب العتيقة، لا يهمه المحتوى بقدر ما تهمه تلك الرائحة القديمة التي تفوح من الورق الأصفر. يقول لـ”963+”: “عندما أشتري كتاباً قديماً، أنظر إلى تاريخ نشره أولاً، فأنا شغوف بالكتب التي تعود إلى 50 أو 60 عاماً مضت”.
وبالنسبة إليه، تتجاوز هذه المخطوطات القديمة وظيفتها وسيلةً لاكتساب المعرفة، “فهي في عيني قطع أثرية تروي تاريخاً شفوياً لعصور مضت، لم أعش فيها”.
وفاعوري ليس بائعاً محترفاً، لكنه وجد في بيع الكتب وسيلة لكسب لقة العيش. يقول: “أحياناً، أشتري الكتب لأبيعها لاحقاً. ففي هذا الزمن الصعب، لا بد من أن تبحث عن بدائل للعيش، وبيع الكتب كان طريقي”، معبراً عن حنينه إلى مكتبات دمشق القديمة التي تُغلق أبوابها، الواحدة تلو الأخرى، وكأن الكتاب في طريقه ليصبح قطعة متحفية، لا أكثر.
في النهاية، يخرج أحد رواد المكان من دون أن يشتري كتاباً، لكنه يغادر محملاً بأفكارٍ تأملية عن عالمٍ منسي. يتذكر كلمات قرأها في أحد الكتب: “إن الكتب التي تستند ظهورها إلى كتب أخرى فوق الرفوف هي عوالم موازية”. هذه الكتب، المهملة على الرفوف، تمثل تلك الزوايا غير المرئية من المدينة، تلك العوالم التي تتلاشى شيئاً فشيئاً، مثل كتاب قديم مهمل تحت طبقة سميكة من الغبار.
نزوة السلطة
لا تنجو هذه الثقافة الملقاة على الرصيف من نزوات السلطة في دمشق. فذات يوم، باغتت أجهزة الحكومة السورية أصحاب هذه البسطات تحت “جسر الرئيس”، وأنذرتهم بإخلاء المكان في ساعات قليلة، من دون مراعاة لضيق الوقت أو عدد الكتب.
وهذه ليست أول مرة، فالصراع بين الفكر والقوة ليس جديداً في سوريا. في عام 2019، طرح فيصل سرور، عضو المكتب التنفيذي في المحافظة لشؤون التخطيط والإحصاء، مسألة نقل بسطات الكتب إلى نفق العدوي، أو أي نفق آخر قرب ساحة العباسيين، لكن أصحاب البسطات رفضوا مفضلين البقاء في مكانهم الحالي، رغم الظروف المعيشية الصعبة التي كانت تزداد سوءاً عاماً بعد عام.
إنهم 11 بائعاً فقط، لا أكثر، تنظر المحافظة إليهم، وربما ترى فيهم “تجاراً كباراً”. وفي عام 2018، أثار سرور نفسه جدلاً واسعاً بقوله إن 85% من أصحاب البسطات “ليسوا فقراء كما يظن البعض، بل يديرون تجارة كبيرة ويستخدمون الفقراء عمالاً لديهم”، متلطياً وراء هذا الكلام لإخفاء مشروع إعادة تأهيل منطقة “جسر الرئيس”، والذي بدأت بوادره بالظهور بنهاية عام 2023.
وكشف مسؤول في محافظة دمشق عن خطة بديلة: تخصيص مساحة في إحدى زوايا الجسر لبسطات جديدة بطابقين، وبأسعار رمزية، تتيح لأصحاب البسطات العودة إلى تجارتهم تخط غطاء شرعي، على أن يُضاف مشروع حدائق وخدمات ذكية تسهّل على الطلاب الاستفادة من المكان. لكن هذا لم يبدُ كافياً لإرضاء أصحاب البسطات، الذين شعروا بأن مصدر رزقهم قد ضاع.
ومع استمرار حملات إزالة البسطات في أماكن أخرى من دمشق، يبدو أن المدينة في طريقها لتغيير ملامحها التاريخية والثقافية لصالح “التطوير الحضري”، لكن بأسلوب يدفع ثمنه أولئك الذين طالما كانوا جزءاً من روحها.
تبقى ملاذاً من الزمن
على الرغم من محاولات محافظة دمشق تبرير خططها التمدينية، فإن إزالة بسطات الكتب وجهت ضربة موجعة لكثيرين، ومثلت انقلاباً على تقاليد دمشق، التي اعتزت دائماً بثقافتها وعراقتها. فربما تكون بسطات الكتب صورةً من صور التلاشي البطيء لثقافة عامة، لكنها تبقى ملاذاً لأرواح تبحث من دون توقف عن معناها الحقيقي في زمن الانحدار.
هذا الملاذ – عربياً – ليس مقتصراً على دمشق. فبسطات الكتب ظاهرة لم تبطل، تجدها مثلاً في شارع المتنبي ببغداد، الذي تحول منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم إلى ملتقى للمثقفين، يلتمون فيه كل يوم جمعة حين تُعرض آلاف الكتب على الرصيف. وتجدها أيضاً في المغرب، وتحديداً في سوق الليدو بمدينة فاس، وسوق باب دكالة بمراكش، وسوق المدينة القديمة بالرباط، وفي سوق الدباغين بتونس العاصمة.
الأشهر على الإطلاق سوق الكتب تحت سور الأزبكية بالقاهرة، الذي تصفه الهيئة العامة للاستعلامات المصرية الرسمية بأنه “علامة من علامات القاهرة الثقافية”.