دمشق
في مشهد غير معتاد، ظهر نعيم قاسم، نائب الأمين العام لـ”حزب الله”، في خطاب جديد، تصدّرت خلفيته راية الحزب إلى جانب العلم اللبناني، في دلالة واضحة تعكس محاولة إبراز الهوية اللبنانية للحزب.
هذه الخطوة أثارت تساؤلات عديدة حول رسائلها وتوقيتها، خصوصاً بعد استهداف الأمين العام السابق للحزب، حسن نصر الله، في 27 أيلول/سبتمبر بغارة إسرائيلية استهدفت مقر الحزب المركزي في حارة حريك، جنوب بيروت.
رمزية العلم اللبناني والرسائل السياسية المبطنة
في الخطاب الأخير، بدا أن الحزب حرص على تقديم العلم اللبناني في موضع متقدم على رايته. هذه الحركة اعتبرها محللون رسالة مقصودة لتعزيز الصورة الوطنية للحزب واحتواء الانتقادات الداخلية المتزايدة التي تطال تورطه في الحروب الإقليمية، خصوصاً في سوريا.
تحدث قاسم بنبرة تحدٍّ، مؤكدًا على دور الحزب في “مواجهة إسرائيل”، واعتبر أن محاولات السيطرة الإسرائيلية تمر عبر “مخطط ثلاثي المراحل”، مختتماً حديثه بشعار: “سيبقى حزب الله على قلوب الكارهين”.
الخلافات الإقليمية وغياب الدعم السوري
جاء ظهور العلم اللبناني في خطاب “حزب الله” وسط توترات إقليمية وعزلة سياسية يعاني منها الحزب. يبدو أن التحالف بين الحكومة السورية والحزب لم يعد متيناً كما كان في السابق، خاصة بعد امتناع دمشق عن تقديم دعم علني مباشر للحزب خلال التصعيد الإسرائيلي. وأثار صمت دمشق ورفضها وصف “حزب الله” باسمه التقليدي، مكتفية بتسميته “المقاومة الوطنية اللبنانية”، شكوكاً حول طبيعة العلاقة الحالية بين الطرفين.
كما تأخر الرئيس السوري بشار الأسد، في نعي حسن نصر الله، ما أثار استياء داخل الحزب، وجاء رد قاسم في خطابه الذي استمر 33 دقيقة خالياً من أي إشارة مباشرة للحكومة السورية. بدلاً من ذلك، اختار قاسم شكر العراق، اليمن، وإيران، متجاهلاً ذكر دمشق، وهو أمر غير معتاد في خطابات الحزب.
جهود ديبلوماسية وتعاون داخلي
أشاد قاسم بجهود نبيه بري، زعيم “حركة أمل”، واصفاً إياه بـ”الأخ الأكبر”، كما أشار إلى دعم الحزب للجهود الديبلوماسية التي يقودها نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال. يسعى ميقاتي بالتعاون مع وليد جنبلاط إلى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، مع ضمانات أميركية لعدم استهداف مطار بيروت والموانئ اللبنانية.
في الوقت ذاته، تصاعدت دعوات من سياسيين لبنانيين، إلى ضرورة عودة الحزب إلى لبنان وحصر نشاطه ضمن الحدود اللبنانية.
ودعا هؤلاء السياسيون إلى “فصل الحزب عن المحاور الإقليمية”، مؤكدين أن “استمراره في الانخراط في الحروب الإقليمية يضر بمصالح لبنان ويضع البلاد في مواجهة مباشرة مع قوى دولية وإقليمية”. ومن بين هؤلاء، طالب وليد جنبلاط وسمير جعجع، بأن “يعيد الحزب ترتيب أولوياته بما يخدم استقرار لبنان”، مشيرين إلى أن “تعزيز الهوية الوطنية للحزب يجب أن يقترن بالانسحاب من الصراعات الخارجية”.
لكن آموس هوكشتاين، مستشار الرئيس الأميركي، أبلغ ميقاتي بأن انتخاب رئيس جديد للبنان هو “الأولوية الآن”، مشدداً على أن الفراغ الرئاسي المستمر منذ عامين يعوق استقرار البلاد، ويبقي الحرب مستمرة.
تصعيد العمليات العسكرية وتداعيات الحرب
أشار نعيم قاسم إلى أن رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار سيؤدي إلى تصعيد العمليات، محذراً من أن استمرار الحرب سيضع أكثر من مليوني إسرائيلي في دائرة الخطر.
وصرح بأن الحزب سيواصل استهداف “حيفا وما بعدها” ضمن معادلة “إيلام العدو”. وأضاف أن الأسبوع الأول من العمليات البرية أدى إلى مقتل 25 جندياً إسرائيلياً وإصابة 150 آخرين.
وفي إحدى أبرز العمليات، استهدفت طائرة مسيّرة تابعة للحزب معسكر لواء غولاني، ما أسفر عن مقتل أربعة جنود وإصابة 67 آخرين، بينهم سبعة بحالة خطيرة.
ومنذ 23 سبتمبر، وسّعت إسرائيل عملياتها العسكرية في لبنان، مستهدفة الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق في الجنوب، ما أدى إلى مقتل 1500 شخص وإصابة 4500 آخرين، بالإضافة إلى نزوح 1.34 مليون شخص.
كما تعرّضت مواقع الحزب في سوريا لضربات مكثفة، ضمن محاولات إسرائيل قطع خطوط إمداد الحزب عبر الأراضي السورية.
في المقابل، أعلن الجيش الإسرائيلي عن حالة استنفار في الجبهة الداخلية استعداداً لمزيد من التصعيد، وأكد المتحدث باسمه أن العمليات تهدف إلى “إزالة التهديدات” الموجهة نحو المدنيين الإسرائيليين.
الموقف الدولي من التصعيد
توالت ردود الفعل الدولية على التصعيد الإسرائيلي في لبنان. الولايات المتحدة أكدت دعمها الثابت لإسرائيل، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إلى وقف إطلاق النار خشية وقوع كارثة إنسانية. من جهتها، نددت فرنسا وألمانيا بالتصعيد وحذرتا من تداعياته على استقرار المنطقة.
أما في العالم العربي، فقد أعربت الإمارات والأردن عن قلقهما من الأوضاع في لبنان.
وفي ظل هذه التطورات، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اتصالاً برئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، مؤكداً ضرورة وقف إطلاق النار وحماية قوات “اليونيفيل” العاملة في جنوب لبنان.
الحزب بين الهوية اللبنانية واستمرار القتال
في ظل هذا التصعيد العسكري، يسعى “حزب الله” إلى تقديم نفسه كجزء أصيل من النسيج اللبناني، مع إبراز العلم الوطني في خلفية خطاباته. يرى البعض أن هذه الخطوة تهدف إلى احتواء السخط الداخلي المتزايد تجاه الحزب، في حين لا تزال رسائله تتضمن تهديدات واضحة بمواصلة الحرب على إسرائيل.
ويبدو أن القرار 1701 الذي ينظم وقف الأعمال العسكرية في الجنوب لم يعد كافياً. فقد طرحت دول فاعلة في مجلس الأمن الدولي صيغة “1701 Plus”، حصلت صحيفة “المدن” على نسخة من مشروع القرار الذي لا يزال قيد الدراسة، وتضمن تعديلات تشمل ترسيم الحدود، نزع سلاح “حزب الله”، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ما يعكس ضغوطاً دولية لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي اللبناني.
وفي ظل هذه الأوضاع، يشير مراقبون إلى أن “حزب الله” يحاول التوفيق بين الهوية اللبنانية التي يسعى إلى تعزيزها، وبين التزامه بالتصعيد العسكري ضد إسرائيل. وبينما يتزايد الضغط الدولي على الحزب، لا تزال الحكومة اللبنانية تحاول المناورة بين متطلبات الداخل والتزاماتها تجاه المجتمع الدولي.