يشهد شمال غربي سوريا تصعيداً عسكرياً جديداً معقداً تتداخل فيه مصالح العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، في ظل تحركات عسكرية مكثفة وتصريحات سياسية متباينة. في السياق تتصاعد التوقعات باندلاع مواجهات جديدة في المنطقة قبيل جولة “أستانا” بهدف إحداث تغييرات في خريطة التوزع العسكرية.
روسيا تصعّد
في 14 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كثفت روسيا قصفها على شمال غربي سوريا، حيث نفذت أكثر من 20 غارة جوية على مناطق في ريفي اللاذقية وإدلب، مستهدفة مواقع تابعة للفصائل المسلحة، بما في ذلك هيئة” تحرير الشام “(جبهة النصرة سابقاً).
وجاءت هذه الهجمات بعد يومين فقط من قيام طائرات استطلاع روسية بمسح شامل للمنطقة لرصد أي متغيرات على خطوط التماس بين قوات الحكومة السورية والفصائل المسلحة.
ويأتي التصعيد الروسي بالتزامن مع زيارة وفد من الأمم المتحدة في المنطقة، حيث استهدفت إحدى الغارات الروسية منطقة باتنتة قرب معرة مصرين، ما يُظهر اتساع نطاق العمليات العسكرية وتزامنها مع تحركات عسكرية على الأرض من قبل القوات الحكومية السورية.
وتشير تقارير إلى أن روسيا أرسلت قبل بدء هذا التصعيد تحذيرات للفصائل المعارضة من مغبة التحرك لتغيير الوضع الميداني، معبرة عن قلقها من تقارير تحدثت عن ما سمته تعاونا بين الفصائل السورية المعارضة المدعومة من أنقرة وأطراف دولية تهدف إلى الإضرار بالمصالح الروسية في سوريا على حد قولِها.
في الوقت نفسه، تعزز تركيا وجودها العسكري في شمال غربي سوريا، حيث قامت بإرسال تعزيزات إلى قواعدها العسكرية في إدلب، بالإضافة إلى التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 أكتوبر، والتي تحدث فيها عن زيادة الجهود لتحقيق “سلام عادل ودائم” في سوريا.
وجاءت هذه التحركات بعد زيارة ميدانية قام بها قادة الجيش التركي إلى عفرين بريف حلب، وهي خطوة أثارت العديد من التساؤلات حول نوايا تركيا في المرحلة المقبلة.
تعقيدات في المشهد السياسي والعسكري
الوضع الراهن يعكس تصاعداً في التوترات العسكرية والسياسية بين روسيا وتركيا، خاصة مع تجميد روسيا لمحاولات الوساطة بين أنقرة ودمشق في ظل تغيرات إقليمية ودولية، أبرزها الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وحلفاء إيران في المنطقة، بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي قد تؤدي إلى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ووفقاً للعديد من المحللين، تعتقد روسيا أن عودة ترامب قد تتيح لها عقد تفاهمات جديدة معه، خاصة فيما يتعلق بالملفات الحساسة مثل أوكرانيا وسوريا.
ويرى المحلل السياسي السوري، علي أمين، في تصريحات لموقع “963+” أن “تركيا تسعى لاستغلال الوضع الراهن للضغط على دمشق وموسكو لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية”.
ويشير إلى أن أنقرة تحاول تعديل اتفاقية “أضنة” أو إبرام اتفاق جديد يمكنها من التمدد في الأراضي السورية دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الحكومة.
وعلى الأرض، تتزايد التقارير عن تعزيزات عسكرية من الجانبين، حيث عززت تركيا قواتها في إدلب وجبل الزاوية، وأرسلت ما يزيد عن 190 آلية عسكرية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية إلى مناطق سيطرتها.
وفي المقابل، تواصل قوات الحكومة السورية و”هيئة تحرير الشام” تبادل القصف المدفعي، ما يشير إلى استعدادات لعمليات عسكرية محتملة في المنطقة.
فيما تقول وسائل إعلام مقربة من المعارضة السورية أن “تحرير الشام” تستعد لشن هجوم على مواقع القوات الحكومية، وهو ما ترفضه تركيا بشدة خوفاً من تداعياته الإنسانية على نحو 4 ملايين نازح يعيشون في إدلب.
وهددت تركيا بإغلاق معبر “باب الهوى” الحدودي، الذي يُعد شريان الحياة لملايين الأشخاص في المنطقة، كوسيلة ضغط على الهيئة لثنيها عن أي تحرك عسكري قد يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني.
في السياق يقول السياسي السوري غسان يوسف أن “الولايات المتحدة تسعى لتعزيز نفوذ “الهيئة “في إدلب لمواجهة القوات الحكومية السورية وحلفائها الروس”، مشيراً إلى أن هذا التحرك “قد يحول إدلب إلى قاعدة متقدمة للولايات المتحدة ضد النفوذ الروسي في المنطقة”.
ولكن محللين أشاروا إلى أن ما تروج له الحكومة السورية، عن مساعي الولايات المتحدة لتعزيز نفوذ “تحرير الشام” يأتي في سياق “استراتيجية دمشق لتشويه سمعة خصومها من المعارضة السورية وخلق صورة عنهم كعملاء للقوى الأجنبية”.
توترات عسكرية قبيل “جولة أستانا”
على الصعيد السياسي، تستعد روسيا لجولة جديدة ضمن مسار “أستانا” حول سوريا، حيث أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، أن التحضيرات جارية لعقد الاجتماع الـ22 في العاصمة الكازاخية أستانا.
وتشير روسيا إلى أن التصعيد العسكري في شمال غربي سوريا يأتي في إطار تحسين موقف الحكومة السورية على الأرض قبل الدخول في أي جولات تفاوضية جديدة.
وهذا التصعيد ليس جديداً، حيث استخدمت موسكو تكتيك تصعيد العمليات العسكرية قبل كل جولة من المفاوضات لتعزيز موقف دمشق في المحادثات.
ابتزاز ومقايضة
وفقاً للعديد من المحللين، تسعى تركيا إلى استخدام فصائل من المعارضة في إدلب كورقة ضغط ضد الحكومة السورية وحلفائها، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية تتعلق بمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.
ويشير المحلل السياسي علي أمين، لـ”963+” إلى أن “تركيا تستخدم هيئة تحرير الشام للضغط على دمشق وموسكو في مفاوضات “أستانا”، لكنها في الوقت نفسه لن تسمح للهيئة بشن هجوم واسع على مواقع الحكومة خوفاً من تأثير ذلك على الوضع الإنساني واستقرار المنطقة”.
ويضيف أمين أن تركيا قد تقدم تنازلات في اجتماع “أستانا 22″، بما في ذلك فتح الطرق الاستراتيجية مقابل تجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة مع القوات الحكومية.
ويرى أن “أنقرة تستغل حالة الغموض التي تحيط بالسياسة الدولية تجاه سوريا للضغط على موسكو ودمشق لتحقيق أهدافها”.
ولا يتعلق الوضع في إدلب فقط بالصراع الداخلي السوري، بل يتداخل مع مصالح إقليمية ودولية أوسع، بحسب ما يرى المحلل السياسي غسان يوسف، في حديث لـ”963+”.
ويضيف، أن التحركات في إدلب “تأتي في إطار مواجهة غير مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إضعاف النفوذ الروسي في سوريا من خلال دعم الفصائل المسلحة في إدلب”.
من جانبه، يرى الدكتور يحيى العريضي، أكاديمي وسياسي سوري، في تصريحات لـ”963+”، أن الحديث عن هجوم واسع النطاق في إدلب “قد يكون مجرد تخمينات سياسية وتهويل إعلامي، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن كافة الأطراف تستغل التوترات لتحقيق مكاسب خاصة”.
ويضيف: “النظام السوري، مثلاً، يسعى إلى توجيه رسائل سياسية لإسرائيل تفيد بأن قواته لا تزال قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية داخل سوريا، رغم الأزمات الداخلية التي تواجهها”.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبقى التساؤل الأبرز: هل ستشهد المنطقة جولة جديدة من القتال، أم أن المسار السياسي سيتمكن من تهدئة الأوضاع؟ كل هذه التحركات تظل رهينة للتطورات الإقليمية والدولية، خاصة مع اقتراب استحقاقات سياسية هامة مثل الانتخابات الرئاسية الأميركية ومفاوضات أستانا المقبلة.