في الآونة الأخيرة، ومع التصعيد المستمر في لبنان واستهداف إسرائيل لمناطق تعد حاضنة لـ”حزب الله”، برزت علامات على وجود خلاف داخل “محور المقاومة”، الذي يضم سوريا كجزء رئيسي منه.
وبالرغم من غياب التصريحات الرسمية التي تشير إلى هذا الخلاف، إلا أن الأحداث على الأرض بدأت تفضح الأمور. كان أوضح تلك الدلالات هو صمت دمشق تجاه ما يحدث لحليفها القوي، “حزب الله”، والذي بلغ ذروته في خطاب نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم.
في خطاب استمر لمدة 33 دقيقة، تجاهل نعيم قاسم تماماً ذكر الحكومة السورية، على الرغم من أنها تُعتبر حليفاً استراتيجياً للحزب. وبدلاً من ذلك، اكتفى بشكر العراق واليمن وإيران، مما أثار تساؤلات حول موقف سوريا.
وظهر قاسم للمرة الثانية منذ مقتل حسن نصر الله وكامل هرم قيادة “حزب الله” الذي تلقى ضربات موجعة من إسرائيل، التي أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الثلاثاء الماضي، عن القضاء على هاشم صفي الدين خليفة نصرالله.
تغير في العلاقات
لطالما كان “حزب الله” الحليف الأبرز للحكومة السورية، خاصة بعد اندلاع الحرب السورية في عام 2011. الحزب الذي كان له دور رئيسي في دعم الرئيس السوري بشار الأسد ضد فصائل المعارضة، تورط في العديد من المعارك العسكرية على الأراضي السورية.
ونشر “الحزب” مقاتليه في مناطق سورية عدة، لا سيما ريف دمشق وحمص وحماة. ومنذ انخراطه في الحرب السورية، فقد الحزب العديد من قادته البارزين في ضربات إسرائيلية استهدفت مواقعهم.
هذا التحالف الذي دام سنوات طويلة، جعل من الغريب موقف دمشق البارد تجاه مقتل نصر الله.
فالذاكرة تعيدنا إلى حرب 2006 عندما فتحت سوريا حدودها لدعم “حزب الله” في معركته ضد إسرائيل، وأمدته بالسلاح والصواريخ.
كان الدعم السوري في تلك الحقبة علنياً، لكن الأمور تغيرت كثيراً مع مرور الزمن.
اليوم، تجد سوريا نفسها في وضع أكثر هشاشة. الوضع الداخلي السوري معقد للغاية، مع استمرار الصراعات المسلحة في الشمال والبادية، وهو ما يجعل من الصعب على دمشق تقديم نفس الدعم الذي كانت تقدمه لـ”حزب الله” في الماضي.
ملامح انسحاب
لعل أولى ملامح الخلاف وتأزم العلاقة انفجر إثر حادثة مجدل شمس التي أودت بحياة مجموعة من الأطفال الدروز بصاروخ اعتبرته إسرائيل موجهاً من “حزب الله”.
وحينها، أدانت دمشق الهجوم وحملت إسرائيل المسؤولية عنه، ورفضت الاتهامات الموجهة للحزب. لكنها استخدمت تسمية “المقاومة الوطنية اللبنانية” للإشارة إلى “حزب الله”، وهي عبارة كانت تُستخدم للإشارة إلى جماعات المقاومة اللبنانية غير الإسلامية في الماضي.
وأثارت هذه التسمية تكهنات حول محاولة دمشق تحييد نفسها عن المعركة الدائرة بين “حزب الله” وإسرائيل، وتفادي الإشارة إلى التحالف التقليدي مع الحزب.
على أن رغبة دمشق في تحييد نفسها عن المعركة وجعل المسألة شأن لبناني. فقد غابت أي إشارة إلى التحالف أو وحدة المصير أو توحيد الساحات، وبدا البيان وكأنه أقرب إلى رفع العتب منه إلى إبداء الموقف.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت تقارير صحفية سورية تشير إلى زيارة قام بها رئيس جهاز المخابرات العامة السورية، اللواء حسام لوقا، إلى لبنان، حيث التقى بنائب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، ورئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين. لكن غياب اللقاء مع نصر الله، كما كان يحدث في الزيارات السابقة، أشار إلى وجود فجوة متزايدة في العلاقات.
وكانت إحدى أبرز المؤشرات على هذا التوتر هي تأخر الحكومة السورية في إعلان نعيها لحسن نصر الله. الذي قتل بغارة جوية إسرائيلية طالت مقر “حزب الله” المركزي، في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، البيان الصادر عن الرئيس بشار الأسد كان مقتضباً جداً، لم يتجاوز 50 كلمة، وأعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام فقط، ما أثار المزيد من الشكوك حول دفء العلاقة بين الطرفين.
وفي تصريح سابق لموقع “963+”، قال وجدان عبد الرحمن، إن “الحكومة السورية نأت بنفسها عن محور المقاومة، رغم الهيمنة الإيرانية على السلطة في دمشق، وحشودها في الأراضي السورية”.
وقال أيضاً إن “دمشق منذ سنوات اكتفت بالتصريحات الكلامية رداً على أي هجوم إسرائيل على الأراضي السورية، وهذا الأمر ليس جديداً بل كان قبل اندلاع الحرب في سوريا، وبات الأسد أكثر حرصاً على عدم مواجهة إسرائيل بعد الحرب، لأن دمشق تعرف قدراتها العسكرية مقارنة بقدرات تل أبيب”.
بينما يرى الصحافي اللبناني علي حمادة، أن موقف دمشق “يكاد يكون محايداً، ما خلا بعض البيانات التي صدرت عن خارجيتها”.
وخلال السنوات الأخيرة، بدا واضحاً أن الحكومة السورية تتخذ خطوات محسوبة للابتعاد عن “محور المقاومة” الذي يضم إيران و”حزب الله” اللبناني.
ويعزى هذا التوجه إلى الضغوط الإسرائيلية والدولية المتزايدة، بالإضافة إلى الأزمة الداخلية التي تعاني منها سوريا.
تحذير مسبق
تشير تقارير إلى أن الأسد قد تلقى تحذيرات واضحة من بعض الحلفاء، مثل روسيا والإمارات، بعدم الانجرار إلى أي مواجهة مع إسرائيل.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر، كشف موقع “Axios” عن تحذير إماراتي لسوريا من مغبة التدخل في الحرب بين “حماس” وإسرائيل.
هذا الحذر من جانب دمشق يتماشى مع خطاب الأسد الأخير. فقد سبق أن صرح في أيار/ مايو الماضي خلال اجتماع للجنة المركزية لحزب البعث، بأن سوريا ستقدم الدعم لأي مقاومة ضد إسرائيل “ضمن إمكانياتها”، وهي عبارة تعكس مدى محدودية قدرة دمشق على التدخل الفعلي في الصراع الحالي.
“حزب الله”، من جهته، يبدو أنه قد تفهم موقف الأسد. ففي آب/ أغسطس الماضي، وبعد اغتيال القيادي في الحزب فؤاد شكر، صرح نصر الله بأنه “ليس مطلوباً من سوريا أن تدخل في قتال مع إسرائيل”، مبرراً ذلك بالظروف الداخلية التي تمر بها دمشق.
كذلك لفت المحلل السياسي الإيراني وجدان عبد الرحمن، إلى أن الأسد منذ هجوم السابع من أكتوبر، “اختار النأي بالنفس لأن دمشق كانت على علم بأنها ستتلقى ضربات موجعة وتحمّلت ذلك، خاصة أن معظمها كانت تستهدف مصالح إيران، التي لا ترغب دمشق بوجودها لكنها مجبرة”.
وقد يكون هذا الابتعاد التكتيكي جزءاً من محاولة إعادة ترتيب الأولويات الداخلية، في وقت تعاني فيه دمشق من ضغوط متعددة، سواء من الحلفاء أو الخصوم.
هذا الحذر من جانب دمشق يتماشى مع خطاب الأسد الأخير. فقد سبق أن صرح في أيار/ مايو الماضي خلال اجتماع للجنة المركزية لحزب البعث، بأن سوريا ستقدم الدعم لأي مقاومة ضد إسرائيل “ضمن إمكانياتها”، وهي عبارة تعكس مدى محدودية قدرة دمشق على التدخل الفعلي في الصراع الحالي.
ومن جهته، “حزب الله”، يبدو أنه قد تفهم موقف الأسد. ففي آب/أغسطس الماضي، وبعد اغتيال القيادي في الحزب فؤاد شكر، صرح نصر الله بأنه “ليس مطلوباً من سوريا أن تدخل في قتال مع إسرائيل”، مبرراً ذلك بالظروف الداخلية التي تمر بها دمشق.
تغيير الأولويات
الابتعاد التكتيكي الذي تتبعه دمشق حالياً يمكن أن يكون جزءاً من محاولتها لإعادة ترتيب أولوياتها الداخلية. سوريا، التي تعاني من أوضاع اقتصادية وسياسية معقدة وضغوط من الحلفاء والخصوم على حد سواء، قد تجد نفسها غير قادرة على الاستمرار في نفس الدور الذي كانت تلعبه ضمن “محور المقاومة” في الماضي.
وفي ظل هذه الأوضاع، يبدو أن تجاهل نعيم قاسم لذكر سوريا في خطابه الأخير كان متعمداً، وقد يعكس تحولاً في طبيعة العلاقة بين الطرفين.
وعلى الرغم من أن سوريا لا تزال تشكل ممراً حيوياً لإمدادات السلاح لـ”حزب الله”، إلا أن الضغوط المتزايدة على دمشق من قِبل إسرائيل وحلفائها تجعلها تتخذ خطوات محسوبة، وتحاول النأي بنفسها عن أي تصعيد قد يجلب لها المزيد من التداعيات السلبية.