في شهر نيسان / إبريل من عام 2011، أي بعد شهر علي انطلاقة الثورة السورية، ذهبت في دعوة شعرية إلي اسكوتلندا رفقة الشاعرين اللبناني يحيى جابر والسوري الكردي جولا حاجي، وكنا نحن الثلاثة شديدي الحماس للثورة السورية وبالغي الغضب والحزن من الحل الأمني الذي اعتمده النظام في التعامل مع الاحتجاجات والانتفاضة الحاصلة، وهو ما عبرنا عنه في اللقاءات الشعرية التي أجريناها في اسكوتلندا. وفي نهاية الدعوة قررت السفر من اسكوتلندا إلى لندن لقضاء عدة أيام مع أصدقائي بغية استثمار التأشيرة البريطانية الممنوحة لي كاملة. في لندن، وبسبب الثورة، التقيت بشخصيات ومثقفين سوريين وعرب من المقيمين فيها ممن لا أعرفهم شخصيا، وكانت فرصة ليعرفوا مني حقيقة ما يحدث في سوريا. مضت أيام زيارتي وعدت إلى سوريا عبر مطار بيروت ثم برا إلى دمشق دون أن يتم توقيفي من قبل الأجهزة الأمنية مع أنني كنت خائفة جدا من ذلك، لكن تلك الفترة لم يكونوا قد بدأوا بعقاب الكتاب والمثقفين المؤيدين للثورة، لم يكن لهذه الشريحة من السوريين وقتها أي اعتبار لدى النظام، خصوصا من كانوا مثلي، بلا تاريخ سياسي معارض معروف للنظام.
بعد أيام تخبرني شقيقتي المقيمة في باريس منذ زمن، أن هناك إشاعة منتشرة لدى أوساط المثقفين في باريس أنني كنت مبعوثة من قبل النظام إلى لندن للتفاوض معهم للعودة عن تأييدهم للثورة وفي الوقت ذاته أحاول التجسس عليهم لمعرفة ما يخططون له. وأن (مثقفا) سوريا فرنسيا هو من نشر هذه الإشاعة وحذر مثقفي باريس ولندن مني بوصفي جاسوسة للنظام الذي أرسلني إلى لندن لغاية محددة. علما أن زيارتي إلى لندن لم تتعد الخمسة أيام، وعلما أيضا أن من قابلتهم وقتها كانوا معلني المواقف سواء في مقالات منشورة في الصحف أو في مقابلات تلفزيونية مباشرة. أي أن مواقفهم معروفة للجميع ولا يحتاج النظام لمن يتجسس عليهم.
في نهاية 2011 أوائل 2012 اضطررت مثل الكثيرين لمغادرة سوريا وتوجهت إلى فرنسا التي كانت الأسرع بتقديم التأشيرة للسوريين، وهناك، حين بدأت الاختلاط بالوسط السوري المعارض لفتت نظري سهولة إطلاق تهمة العمالة للنظام على كل سوري جديد يصل إلي باريس، فالقادم الجديد مدان إلى أن تثبت براءته، وما أن تثبت البراءة حتى يتحول هو أيضا إلى منخرط في نظرية المؤامرة تلك ويطبقها على القادمين بعده، وهكذا؛ أتذكر أنني وقتها، رغم تعرفي بأصدقاء وشخصيات أثرت في حياتي لاحقا، إلا أنني لم أستطع احتمال هذا المناخ ففضلت الانتقال إلى القاهرة التي كنت قد زرتها خلال هذه الفترة بدعوة لحضور مؤتمر خاص بالسوريين، وأعجبت بالحالة الثورية الهائلة التي كانت تطغى وقتها على المجتمع المصري؛ وطبعا كان اعتقادي أن العودة إلى سوريا هي مسألة وقت فقط قد تمتد لشهرين أو أكثر قليلا قبل أن تتحول العودة إلى واحدة من المستحيلات السورية، وقبل أن يصبح الخروج من سوريا حلم المقيمين فيها حتى الآن.
في مصر، التي استقبلت في عام 2012 عددا كبيرا من السوريين، وكانت مركز تجمع للمعارضة السورية وللمثقفين السوريين، لم يكن الأمر أحسن حالا من فرنسا بخصوص موضوع التخوين بين المثقفين والأنتلجنسيا المعارضة. كانت اتهامات العمالة للنظام تنتشر كالنار في الهشيم بين المعارضين؛ ولا تزال حادثة ضرب المناضل المغيب في سجون النظام عبد العزيز الخير أمام الجامعة العربية المثال الأوضح على الحالة التي كانت تسود السوريين وقتها. وهنا لا يجب أن يفوتنا السؤال عن مصير الخير ومقارنته بمسار ضاربيه ومخونيه وقتها ومنهم من عاد إلى سوريا بعد أن كشف عن تاريخه الأمني في التعامل مع النظام، والآخرون يعيشون في الدول الأوروبية منعمين بالأمان والسلامة والعيش الكريم بينما مصير عبد العزيز الخير مازال مجهولا منذ أن تم خطفه من قبل النظام السوري على طريق المطار إثر عودته من زيارة سياسية ناجحة إلى الصين. بعد أشهر قليلة على حادثة ضربه في القاهرة
كان يمكن لحادثة عبد العزيز الخير (العلوي المنبت واليساري العقيدة) وما حدث معه ومآلات المخونين له أن تكون عبرة ودرسا لمن يستسهلون تخوين الآخرين من السوريين، لكن للأسف فإن استمرار هذه العادة وتمددها تدل على أن السوريين لا يريدون مراجعة ما حدث في الثورة ولا الاستفادة من الأخطاء القاتلة التي أدت إلى نتائج كارثية هزمت بسببها الثورة شر هزيمة. ذلك أن العمالة للنظام تهمة يسهل إطلاقها في كل الخلافات العامة والشخصية، دون أن يكون لدى مطلق التهمة أي دليل حقيقي يثبت فيه أنه محق، وللأسف فإن وسائل التواصل سهلت إطلاق هذه التهم وانتشارها في أوساط السوريين الافتراضيين. ولو أردنا أن نذكر عدد الشخصيات التي تم تخوينها لغير سبب لما انتهينا من العد، أما الأسباب فهي كثيرة لا تبدأ عند الشخصي ولا تنتهي عند الانسياق وراء حملات التخوين بطريقة قطيعية؛ بل هي معممة على كل أسباب الخلاف، مع كل خلاف يحدث بين السوريين (الثوريين) تظهر تهمة العمالة للنظام أو الدعوة لمسامحته والعودة إلى سوريا والتعامل معه. مع أن من فعلوا ذلك حتى الآن من الكثر جدا الذين تم تخوينهم لا يعدوا على أصابع اليد الواحدة. ومن فرط سهولة تخوين الآخرين بات السوري يخشى التصريح أنه يشتاق لبلده وأنه يحلم بالعودة إليها، ذلك أن (شرطة الثورة) ينتظرون أي تصريح كهذا ليتفاخروا بطهرانيتهم الثورية والوطنية عبر وتخوين وتوجيه تهم العمالة نحو آخرين كل ما فعلوه أنهم عبورا عن مشاعرهم في لحظة حنين جارفة.
ولم تتوقف تهمة العمالة للنظام هنا، بل هي تطال حاليا، من يقفون مع المقاومة الفلسطينية، بذريعة أن هذه المقاومة مدعومة من إيران وبالتالي الوقوف معها يعني الوقوف مع قتلة السوريين؛ وعبثا طبعا محاولات التفريق وفصل التشابكات عن بعضها البعض، والابتعاد عن الثنائيات القاتلة، لا يصلح هذا مع السوريين (الثوريين) للأسف، فإما أن تفكر مثلهم أو أنك أنت تحن لأيام النظام على الأقل.
واللافت جدا أن معظم هؤلاء لا يبدو أنهم سوف يعودون إلى سوريا في حال تم الوصول إلى حل سياسي تغير بموجبه النظام وتغيرت الأوضاع في سوريا، فمعظمهم مستقرون في دول الغرب والمجتمعات الجديدة ولا يظهرون أي علاقة مع سوريا سوى شتم النظام السوري والدعوة إلى الثورة المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتخوين من في الداخل وتخوين كل من يخالفهم. كما لو أن هذا النوع من السلوك هو آخر ما تبقى لهم من الثورة المهزومة. كما لو أنهم بذلك يتخففون من بعض العبء النفسي الذي يسببه الهروب من الموت والنجاة منه، وفي حالتنا السورية هو الهروب من استحقاق البقاء داخل سوريا وقت الثورة، وكلنا تقرييا هربنا من هذا الاستحقاق باحثين عن نجاتنا وأمننا، وهذا مشروع وحق من حقوق الإنسان شرط زن لا يتم استثمار هده النجاة في تخوين الآخرين والمزايدة عليهم.
يتصرف الكثير من السوريين المؤيدين للثورة والتغيير بسلوك لا يختلف أبدا عن سلوك السوريين المؤيدين للنظام الذين يطلقون على المختلفين معهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تهمة العمالة لإسرائيل والغرب ودول النفط وكل تلك الإكليشيهات التي باتت معروفة ومحفوظة في الذاكرة السورية. لكن أن يفعل سوريون يدعون أنهم هربوا من بطش النظام لأنهم طالبوا بتغييرة وتغيير منظومته الفكرية والسياسية والاقتصادية فهذا بحق هو عجب العجاب. ذلك أن سلوكا كهذا يمكن فهمه في بدايات الثورة مع التخبط الهائل الذي عاش فيه السوريون، لكن بعد مضي كل هذه الأعوام وبعد كل ما حصل وبعد انكشاف حقيقة من أودى بالثورة إلى الهاوية وساهم في هزيمتها كان ينبغي علي السوريين، المثقفين، على وجه الخصوص، تعلم الدروس واكتساب آليات جديدة وحداثية للتفكير والفهم والتعامل مع كل ما يجري وإثبات قيم الثورة الحقيقية، أما أن نبقى نتعامل بنفس آليات التفكير السابقة التي يتعامل بها النظام مع جميع مخالفيه والمعترضين على أي أمر من أمور علاقته مع البلد فهذه كارثة كبرى. ذلك أن وسائل التواصل هي وسائل كشف أولا، وهي تفضح آليات التفكير لدي الأفراد والمجموعات البشرية، ومع هذا السلوك الذي تبديه نخب سورية ثورية في استسهال التخوين لسوريين آخرين هل سيبقى من يصدق أننا شعب يستحق التغيير فعلا؟ وبالمناسبة مازال هنالك سوريون ثوريون يعتقدون أن عبد العزيز الخير يستحق ما حدث له بسبب انتمائه لهيئة التنسيق (المرحومة). وهؤلاء يعيشون في أوروبا بكامل أمانهم وأمنهم وهربوا من سوريا دون أن يتعرضوا لأي ضغط من النظام. فتأملوا بحالنا يرعاكم الله.