خاص – سارة مطر/ بيروت
تحت السماء الملبدة بالدخان، هرع أحمد رمضان الهلال وسط بساتين الليمون في جنوب لبنان، محاولاً النجاة بحياته وحياة أسرته. كان أحمد يعمل هناك ليعيل عائلته، لكنه لم يكن يتوقع أن يجد نفسه يوماً ما هارباً مجدداً، ليس من الحرب في سوريا التي فرّ منها قبل عشر سنوات، بل من القصف الإسرائيلي الذي اشتد على مناطق الجنوب اللبناني.
“ركضنا بأقصى سرعة، تركنا خلفنا كل شيء”، يقول أحمد بينما يقف قرب خيمته المكتظة في شمال لبنان. “ركبنا سيارة صاحب الأرض حيث أعمل، وبعدها بدأت رحلتنا”.
وصل أحمد مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى تل عباس، وهي بلدة صغيرة في شمال لبنان، بعد رحلة مريرة مليئة بالمخاطر، ليجد نفسه وعائلته مرة أخرى بلا مأوى، يفترشون الطرقات بحثاً عن مأوى آمن.
“كأن النزوح أصبح قدراً لا يمكن الفرار منه”، يتابع أحمد بتنهيدة. هذا الرجل الذي عاش تجارب النزوح المتكررة، من حمص إلى جنوب لبنان والآن إلى شماله، بات يواجه مأساة مضاعفة: لا يملك مالاً ولا طعاماً، ويعيش الآن في خيمة واحدة مع 16 شخصاً من أقاربه وأفراد أسرته.
ويقول بحسرة وعيونه تلمع بالتعب واليأس، لموقع “963+”: “نحن هنا بلا مساعدات، حتى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لم تتواصل معنا على الإطلاق”.
نزوح لا ينتهي
منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، لم يعرف مئات الآلاف من السوريين سوى التشرد والنزوح، سواء داخل بلادهم التي دمرتها الحرب، أو في دول الجوار.
لبنان، البلد الصغير الذي يعيش أزماته الخاصة، استضاف على مدى السنوات الماضية أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري، ليصبح اللاجئون السوريون جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبنان.
لكن مع توالي الأزمات، ابتداءً من تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان إلى الأزمة السياسية والانفجارات التي هزت بيروت، زادت معاناة اللاجئين السوريين بشكل كبير.
واليوم، مع اشتداد الهجمات الإسرائيلية على لبنان وتصاعد الاشتباكات بين الجيش الإسرائيلي و”حزب الله”، وجد اللاجئون السوريون أنفسهم في مواجهة نزوح جديد، يضاف إلى سنوات النزوح السابقة.
ووفقاً للأرقام الرسمية الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عبر نحو 100 ألف شخص الحدود إلى سوريا منذ تصاعد القتال في جنوب لبنان، 60% منهم لاجئون سوريون.
لكن هذه الأرقام لا تعكس حجم المعاناة التي يعيشها هؤلاء النازحون، إذ إن آلاف العائلات السورية لا تزال تقبع في العراء، تفترش الشوارع والأرصفة أو تختبئ في البساتين والكروم، غير قادرة على الوصول إلى مأوى آمن.
أيام في العراء
ثناء الوهاب، لاجئة سورية وصلت إلى لبنان عام 2012، لم تكن تتوقع أن تجد نفسها في مواجهة نزوح جديد.
“ننام منذ أسبوع على الرصيف أمام أحد مراكز الإيواء في محافظة البقاع”، تقول ثناء.
وتضيف لـ”963+”: “أخبرونا أن المركز مخصص فقط للبنانيين، ولم يُسمح لنا بالدخول”. ثناء، التي تعيش مع أطفالها الثلاثة، تحمل في قلبها خوفاً كبيراً من الأيام المقبلة، خاصة مع اقتراب الشتاء وبدء العواصف الثلجية.
“نعيش الآن تحت السماء المفتوحة، ننام على الأرض، والبرد ينهش أجسادنا. لا نملك غطاءً ولا وسيلة للدفء”، تتابع ثناء بصوت تخنقه العبرة.
المأساة الأكبر بالنسبة لثناء هي صحة طفلتها الصغيرة التي تحتاج إلى أدوية مخصصة، لكنها فقدتها أثناء الهروب من القصف الذي ضرب المخيم الذي كانوا يعيشون فيه في بلدة تمنين في البقاع الشمالي. “من شدة الذعر نسيت أدويتها، والآن لا أستطيع فعل أي شيء لإنقاذها”.
في مشهد آخر من مآسي اللاجئين، تعيش أمل موسى مع عائلتها المكونة من عشرة أفراد رحلة نزوح مشابهة.
هربت أمل من بلدة المجادل في قضاء صور بجنوب لبنان، لتجد نفسها مع عائلتها مشردة في سهل حلبا شمالاً. “نحن ننام منذ تسعة أيام في العراء”، تقول أمل لـ”963+”، وهي تحمل طفلها الصغير، الذي لم يتجاوز عامه الأول، بين ذراعيها.
وتضيف: “أنا حامل في شهري الخامس، ولم نتمكن من الحصول على أي مساعدة، باستثناء ما قدمه لنا لاجئ سوري آخر”.
تروي أمل رحلتها من الجنوب إلى الشمال كأنها كابوس لا ينتهي: “استغرقت رحلتنا يومين، بين السير على الأقدام وركوب السيارات”، تقول: “وصلنا أخيراً إلى طرابلس ومنها إلى سهل حلبا، لكننا لم نجد مكاناً نبيت فيه. المدارس رفضت استقبالنا، فهي مخصصة للنازحين اللبنانيين فقط”.
مع كل هذا الألم، لم يكن لدى أمل أي خيار سوى الاستمرار في الرحلة، لكن بقلق يملأ قلبها: “لا نستطيع العودة إلى سوريا، لأننا لا نملك أوراقنا الرسمية، ولا نعرف ما الذي سيحدث لنا”.
كارثة إنسانية تلوح في الأفق
تحت القصف والدمار، تتزايد الأرقام المروعة التي تعكس حجم الكارثة الإنسانية في لبنان. المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أفادت لـ”963+” أن “ما لا يقل عن 113 سورياً لقوا حتفهم منذ بدء الاشتباكات في جنوب لبنان، من بينهم 40 طفلاً”.
كما أن “أكثر من 343 سورياً أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة، بينما يعيش عشرات الآلاف في ظروف غير إنسانية”، بحسب المفوضية.
ونزح حتى 30 أيلول/سبتمبر 2024، أكثر من 21 ألف لاجئ سوري على مدار الصراع الذي دام عامًا. وفي 23 من الشهر ذاته، نزح أكثر من 8.500 لاجئ سوري، بيوم واحد، بسبب تصعيد الأعمال العدائية في لبنان.
ومع ازدياد أعداد النازحين، دعت المفوضية وشركاؤها إلى توفير تمويل عاجل للاستجابة للاحتياجات الإنسانية المتفاقمة.
الحكومة اللبنانية قدرت نزوح مليون شخص حتى الآن، فيما باتت شوارع العاصمة بيروت مكتظة بالنازحين الذين لا يجدون مأوى.
وقد أطلقت المفوضية الثلاثاء الماضي، نداءً عاجلاً لجمع 425.7 مليون دولار أميركي لتقديم مساعدات فورية، وتُقدّر حصة المفوضية من هذا النداء بنحو 83 مليون دولار.
العائق الرئيسي أمام العودة
رغم أن الحكومة السورية أعفت اللاجئين السوريين من رسوم الدخول لفترة مؤقتة، والتي كانت مقدرة بـ100 دولار للشخص الواحد، إلا أن العديد من اللاجئين ما زالوا غير قادرين على العودة إلى بلادهم.
وبحسب رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر، فإن “النظام السوري يمثل العائق الأساسي أمام عودة اللاجئين”.
ويقول لـ”963+”: “النظام لا يبدي أي خطوات جادة لتسهيل عودتهم”، مضيفاً: “لا يزال يسجل أسماء المطلوبين للخدمة العسكرية، ويواصل توقيف العائدين”.
هذا الواقع دفع الكثير من اللاجئين إلى اللجوء لطرق غير قانونية عبر المهربين للعودة إلى سوريا، لكن حتى هذه الطرق مليئة بالمخاطر، حيث يتعامل العديد من المهربين مع الأجهزة الأمنية السورية. “لذلك، يبقى لبنان الملاذ الوحيد للكثير من اللاجئين السوريين، رغم صعوبة الوضع هنا”، يضيف الأسمر.
وتأسف المحامية والناشطة الحقوقية ديالا شحادة، كون “بعض اللاجئين يتعرضون لظروف سيئة جدّاً”.
وتقول لـ”963+”: “اللبنانيون تشردوا في الطرقات، فما بالنا بغير اللبنانيين؟ مع العلم أن اللاجئين السوريين لا يملكون أي ملاذ آمن سوى لبنان، فقد هربوا من الحرب في سوريا ولا إمكانية للرجوع، كونهم معرضين لخطر الاضطهاد والتعذيب الشديد، فلا حول لهم ولا قوة، ولا خيار أمامهم سوى البحث عن مخيم أو منزل في منطقة لبنانية آمنة”.
التمييز في تقديم المساعدات
بينما يعاني اللاجئون السوريون من نقص في المساعدات، يواجهون أيضاً تمييزاً في توزيع هذه المساعدات. وفقاً للأسمر، فإن “التفرقة بين النازحين اللبنانيين واللاجئين السوريين أصبحت واضحة، حيث تقتصر بعض المساعدات على اللبنانيين فقط، رغم أن الدول المانحة ترفض توزيع المساعدات على أساس فئوي”.
ويضيف: “هذا التمييز يعمق الأزمة ويحد من إمكانية حصول لبنان على مساعدات إضافية”.
ويوضح اللاجئ والناشط السوري في طرابلس أحمد عودة، لـ”963+”، أن “بعض اللاجئين السوريين في جنوب لبنان، نزحوا نحو محافظة الشمال ومناطق آمنة، في حين لم يتلقوا أي دعم أو مساعدات، وتمّ طردهم من بعض مراكز الإيواء، باستثناء بعض الجهات في مدينة طرابلس التي استقبلتهم وفتحت لهم أبواب المدارس، ووفّرت ما تيسّر من مساعدات”.
تحت وطأة الحرب والنزوح، يعيش اللاجئون السوريون في لبنان حياة على الهامش، بين النزوح المستمر والمساعدات المحدودة. ومع اقتراب فصل الشتاء، تزداد الحاجة إلى حلول عاجلة لإنقاذ هؤلاء النازحين من مأساة متجددة. لكن حتى الآن، لا يبدو أن هناك نهاية في الأفق لهذه الكارثة الإنسانية، حيث يبقى اللاجئون السوريون محاصرين بين قصف لا ينتهي ووعود غير محققة.