يشهد لبنان تطورات بالغة الخطورة، بفعل العمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، التي تصاعدت بصورة متسارعة بعد التفجيرات المتزامنة التي استهدفت آلاف الكوادر من حزب الله، مروراً بسلسلة اغتيالات طاولت قادة بارزين، كان أشدّها هولاً وتأثيراً عملية اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام، والشخصية الأبرز والأكثر حضوراً وتأثيراً في تاريخ الحزب، منذ تأسيسه قبل نحو أربعين عاماً.
لن تقتصر تداعيات هذه التطورات على لبنان، إذ من المرجّح أن تمتد إلى الأراضي السورية على أكثر من صعيد، وهي بدأت فعلاً على الصعيد الإنساني، في مفارقة مأساوية. ذلك أنّ سوريا التي أصبحت تتصدر تصنيفات الأماكن الأسوأ للعيش، ويشكّل حاملوا جنسيتها نسبة من بين الأعلى بين اللاجئين حول العالم، هي الوجهة التي لجأ إليها آلاف اللبنانيين، هرباً من ويلات الحرب. هذا يعني ضغوطاً وأزمات إضافية، ستفاقم من الوضع الإنساني المزري أصلاً، في دولة عاجزة عن توفير الحاجات والخدمات الأساسية لسكانها، فكيف وهي تستقبل لاجئين من خارج حدودها، في ظروف تنبئ بمزيد من التصعيد، وما يتبعه من تهجير ونزوح.
لم يتوقّف زخم عدوان إسرائيل بعد استهداف نصر الله وكبار قادته، وطيرانها الحربي يواصل غاراته ضدّ ما تقول إنها “مقرات ومستودعات أسلحة ومنصات إطلاق صواريخ تابعة لحزب الله”، وثمّة أنباء متواترة عن بدء وحدات من قواتها البرية التقدم في الجنوب اللبناني، علماً أنه ما زال من المبكّر الجزم بمدى تأثر الإمكانات العسكرية لحزب الله، وقدرته على التعامل مع هجوم إسرائيلي شامل بعد كل ما تعرّض له أخيراً. مع ذلك، توحي المعطيات بأن ما يجري أبعد من عملية خاصة محدودة، وهو تنفيذ لخطة إسرائيلية واسعة النطاق، ربما تهدف إلى فرض قواعد جديدة في لبنان والمنطقة بعد حربها المستمرة في غزة، أساسها تحجيم حزب الله والحد من قدراته العسكرية واللوجستية، لدرجة قد يعود معها إلى ما كان عليه في سالف عهده، ميليشيا مسلحة محلّية، يصعب أن تشكّل خطراً جدياً يهدّد دولة الاحتلال.
لكنّ التوصّل إلى تحقيق هدف على هذا المستوى سيتطلّب عمليات تتجاوز لبنان لتشمل سوريا أيضاً، دون أن يعني ذلك بالضرورة انخراط قوات سورية في القتال. فإنه على مدى أكثر من عشر سنوات مضت منذ بدأ تدخّله العسكري المباشر في سوريا، استطاع الحزب تأسيس بنية عسكرية وأمنية محكمة هناك، تضمّ قواعد تدريب ومستودعات أسلحة، ومقرات عمليات، تنسق في ما بينها هيكلية قيادة وتحكّم، بصورة تتجاوز كثيراً ما كانت تتطلّبه مهمة القتال إلى جانب نظام الأسد للقضاء على المعارضة المسلّحة، واستعادة المناطق التي كانت تحت سيطرتها. ويبدو أن تكثيف الغارات الإسرائيلية على مواقع في وسط وجنوب سوريا، حيث المناطق التي يكثر فيها انتشار عناصر الحزب ومقراته، يأتي في هذا الإطار، ويتكامل مع السياق الأوسع للصراع الإيراني الإسرائيلي على النفوذ في المنطقة، وتحديداً في سوريا ولبنان. فإذا مضت إسرائيل في العمليات البرية، سيكون متوقعاً أنّ تتأثّر وضعية الحزب في سوريا، حيث سيضعف وجوده على الأرض، نظراً لاضطراره إلى نقل مقاتلين ومعدات وأسلحة إلى لبنان، للمشاركة في صدّ الهجوم الإسرائيلي.
هذا التطور من شأنه أن يخلق فراغاً ميدانياً في بعض مناطق سيطرة حزب الله في سوريا، ومن الصعب على ما تبقى من الجيش السوري وقواته المتهالكة تعويض النقص الحاصل بالعديد والعتاد، في المواقع التي قد يخليها مقاتلو الحزب. بالتالي، سيكون على إيران الزج بقوات إضافية، نظامية أو ميليشياوية، تحفظ نفوذها على الأرض، لا سيما وأن أي منطقة تخلو من ميليشياتها لن تكون بعيدة عن مطامع الحليف الروسي اللدود، الذي لا يخفى تباين المصالح والأهداف والاستراتيجيات بينه وبين المشروع الإيراني في سوريا.
من جهة ثانية، فإن الهجمات بالصواريخ والمسيرات التي تنطلق من الأراضي السورية باتجاه إسرائيل، باسم عمليات انتقامية رداً على اغتيال نصر الله، أو لتخفيف الضغط على الحزب في لبنان، حسب تطور الموقف، وسواء فعلت ذلك قوات إيرانية أو ميليشيات مرتبطة بها، يمكن أن تجعل ردّ إسرائيل يتجاوز الغارات الروتينية التي اعتادت تنفيذها في سوريا إلى عمليات برية، وإن اقتصرت على الشريط الحدودي. وفق سيناريو كهذا، لن تكون المناطق المتاخمة لهضبة الجولان المحتلة، مثل القنيطرة ودرعا، بمنأى عن التصعيد، وهذا يعني أنّ حالة الاستقرار الهشّ التي نشأت هناك بتوسّط القوات الروسية، ستتعرض لزعزعة جديدة إذا أضيفت المنطقة تلك إلى ساحة العمليات الإسرائيلية.
وجرياً على ما استقرّ عليه دور روسيا، بوصفها الفاعل الأكثر تأثيراً في الملف السوري، يمكن لها استغلال تدهور الأوضاع ميدانياً، والسعي إلى لعب دور الوسيط الباحث عن تهدئة تمنع تصعيداً أوسع، بالتنسيق مع الأميركيين المشغولين بانتخاباتهم الرئاسية أو من دونهم. الشيء نفسه قد تفعله تركيا أيضاً، فكلاهما يرتبط بعلاقات وثيقة ومصالح متبادلة مع إيران وإسرائيل على السواء، بل ويمكن أن يجداها فرصة لتحريك الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تحقيق تسوية للملف السوري، بما يضمن مصالحهما معاً.
تبقى هذه السطور محاولة لفهم ما يجري واستقراء مآلاته، وهي تناقش احتمالات غير مؤكدة. لكن المؤكّد أن شعوب المنطقة هي الخاسر الأكبر، وسيكون أمام الأجيال القادمة عمل كثير لتجاوز كل هذا الخراب.