“في 11 نهار، انهار”، كانت جملة لُمحَت مؤخراً على موقع للتواصل الاجتماعي. جماليتها تكمن في بساطتها، وفي حملها الكثير من الحقيقة في وصف ما حلّ بمنظمة “حزب الله” العسكرية.
ما حلّ بالحزب يصعب وصفه، وهو أقرب إلى مسلسل إثارة متسارع قبل نهاية فصوله الممتدة منذ عام 1982؛ تاريخ تأسيس الحزب. قضى أمينه العام وأغلب قيادييه العسكريين، كما نخبة المقاتلين ومسؤولي الفرق العسكرية المهمة. عُطِب بضعة آلاف من حملة الأجهزة اللاسلكية وأجهزة التواصل الميداني، ودُكَّت مخازن الأسلحة التابعة للحزب في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، جنوب لبنان، وفي منطقة البقاع شرق البلاد.
الخسائر المهولة التي تعرض لها “حزب الله” تفتح شهية إسرائيل لإنزال المزيد من الخسائر به بعدما شعرت بضعفه وقلة حيلته، كما تفتح شهية منتجي الوثائقيات الحربية المذهولين حالياً بتسخير الجانب الإسرائيلي للتكنولوجيا في الميدان العسكري، وتُقدّم نموذجاً عن القتال المؤثر الذي يستدعي جنرالات جيوش العالم للتعلم منه.
كانت “حرب تموز” عام 2006 نزهة أمام ما جرى عام 2024. تعلمت إسرائيل بجدية من الثغرات التي عانت منها في تلك الحرب، فيما يبدو أن الحزب لم يتعلم الكثير منها. إسرائيل اليوم واضحة في ما تريده، وهي سريعة في الميدان، ونشطة جداً في جمع المعلومات الاستخباراتية، وتختلف كثيراً عن إسرائيل السابقة. في عام 2006، قال الجيش الإسرائيلي إنه نجح في اغتيال أمين عام الحزب حسن نصرالله، ليعود الأخير ويظهر في اليوم التالي مخاطباً جنوده وجمهوره من وراء شاشة غير مكترث للدعاية الإسرائيلية. تغيّر الأمر اليوم جذرياً. لم تقل إسرائيل مرة إنها اغتالت قائداً إلا وصدقت، وهذا يدل على متانة وقدرة الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي وتفوقه في جمع المعلومات والاستفادة منها وتسخيرها للهدف العسكري وقتل مختلف قيادات الحزب.
يملك “حزب الله” جماعات كثيرة، أو قل طبقات كثيرة تُشكّل بنيته وهيكله الحزبي، وبعض هؤلاء لا يزالون سليمين حتى اليوم. القياديون الرفيعون، وهم المسؤولون في مجلس الشورى، المجلس المركزي، والمجلس الجهادي، ويرأسهم نصرالله شخصياً، قُتل حوالي نصف أعضائهم في الأيام القليلة الماضية. الطبقة الثانية، وهم القادة العسكريون ورؤساء الأجهزة الاستخباراتية ورؤساء الفرق المقاتلة، والذين قُتلوا بأغلبهم، وخاصة في الاستهداف الذي طال قائد دائرة العمليات العسكرية في الحزب إبراهيم عقيل، في 20 سبتمبر/أيلول، حين كان في اجتماع مع أعلى قيادات “وحدة الرضوان” الأشهر في الحزب. أما الطبقة الثالثة، فهم رجال الدين الذين يشكّلون، كأفراد وروابط إسلامية وعلمائية، مدماكاً أساسياً في بنية الحزب، ويعملون في تأمين تماسك أنصار الحزب وفي تجنيد المقاتلين، وقد سقط منهم حوالي عشرة، كان آخرهم الشيخ نبيل قاووق الذي قتلته إسرائيل بغارة في 28 سبتمبر/أيلول الحالي.
أما الطبقات الأدنى من القياديين، الأوسع والأكثر عدداً، فهي ثلاثة: المقاتلون العاديون، وهم يرابطون بشكل غالب في الجنوب، وسقط منهم حوالي 500 منذ بداية الحرب حسب بيانات “حزب الله” نفسه، بالإضافة إلى إصابة حوالي 1500 عنصر في تفجير الأجهزة الشهير، حسب وزارة الصحة اللبنانية. أما أعضاء المؤسسات الاجتماعية، مثل تلفزيون “المنار” الناطق باسم الحزب، و “كشافة المهدي”، ومراكز الإسعاف والمستشفيات الميدانية، بالإضافة إلى المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية، فهي لم تُمس حتى اليوم. أما الجزء الثالث، فهم المناصرون العاديون غير النشطين في بنية الحزب، ويُسمَّون غالباً “بيئة الحزب”، وهم الآن في حالة من الصدمة العميقة بسبب النزوح والخسارة لقائدهم، ولديهم ميول ثأرية كما ظهر في الأيام الماضية.
قد تكون إسرائيل على علم واضح بتركيبة بنية “حزب الله” و”طبقاته” الست، وتقتنص الفرصة لإضعافه عبر قتل كل مسؤول فيه، من دون الهجوم الجدي على أنصاره المدنيين ومؤسساته الاجتماعية غير القيادية، والتي تبقى الخزان البشري والشعبي الحقيقي الذي يمكنه أن يعيد إيقاف “حزب الله” على قدميه بعد نهاية الحرب.
إن مقاربة هوية الأهداف التي تضربها إسرائيل لا تشي بأنها تريد القضاء على “حزب الله” كجماعة وحزب له قدرته القوية في الداخل اللبناني، وإلا كانت استهدفت مؤسساته الاجتماعية، بل تريد إضعافه عسكرياً فقط وإجباره على ترك جبهة الجنوب اللبناني وعدم قتال إسرائيل مطلقاً. كما يمكن أن يؤدي استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلة المباغتة إلى أمرين؛ الأول هو رضوخ “حزب الله” للحقائق الميدانية وسحب نخبة مقاتليه من سوريا وأماكن أخرى لسد الفجوة الحاصلة معه في لبنان، أما الثاني فقد يكون ركون الحزب لأساليب قتال قديمة وأكثر تقليدية كان قد مارسها من قبل، ومنها تنفيذ عمليات خارج لبنان ضد المصالح الإسرائيلية أو تنفيذ عمليات إنتقامية كما كان يفعل في ثمانينات القرن الماضي.
تسخّر إسرائيل كل إمكاناتها لتقويض بنية “حزب الله” العسكرية، وهذا ما فعلته بالضبط في الأيام الإحدى عشر الماضية، بينما لم تكترث البتة لتقويض مؤسساته الأخرى أو حتى أنصاره الكثر. من الوارد جداً أن ينتهي “حزب الله” بعد هذه الحرب جماعة مجردة من السلاح أو من إمكانية قتال إسرائيل مستقبلاً، لكنها ستبقى حزباً لبنانياً متقدماً على كل نظرائه، وله أنصار كثر ومؤسسات يمكنها أن تعيد اللحمة إلى بنية الحزب وجسده المدني. إن الرهان على نهاية “حزب الله” من الوجود أمر حالم جداً، ولو أنه يدغدغ مشاعر البعض، فغداً يُختار أمين عام جديد يعيد تنظيم الحزب ويقود “بيئته” من جديد. أما نهاية الجناح العسكري للحزب فهو أمر وارد بقدر ما تعتزم وتريد وتستطيع إسرائيل.