رغم أن الملف السوري لم يعد يحتل مكانة متقدمة في الأولويات الأميركية كما كان الحال في سنوات الحرب الأولى، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بالعديد من الأهداف الاستراتيجية الرئيسية في سوريا.
تشمل هذه الأهداف مكافحة الإرهاب، منع تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، الحفاظ على النفوذ في شمال شرقي سوريا، عبر دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية التي تهدف إلى الضغط على دمشق لتحقيق تقدم سياسي ملموس.
وكانت مكافحة الإرهاب أحد محاور السياسة الأميركية الرئيسية منذ تدخل الولايات المتحدة في الحرب السورية.
إذ يظل تنظيم “داعش” على رأس التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، رغم الانهيار الظاهري للتنظيم في السنوات الأخيرة.
تستمر واشنطن في الاعتماد بشكل كبير على الشراكة مع “قسد”، وتلعب دوراً حاسماً في مواجهة التنظيم المتطرف. هذا الدعم يتمثل في تقديم التدريب العسكري والمعدات، إضافة إلى المساعدة الجوية، لضمان أن التنظيم لا يعاود الظهور.
مع ذلك، تظل التحديات قائمة، خاصة مع تزايد الهجمات التي تنفذها فصائل مدعومة من إيران ضد القوات الأميركية المنتشرة في سوريا.
هذه الهجمات تثير تساؤلات حول مدى استعداد واشنطن لتحمل المزيد من الخسائر العسكرية، ما يطرح سيناريوهات مستقبلية تتعلق بإمكانية انسحاب أو تقليص الوجود العسكري الأميركي في سوريا.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في “داعش” تهديداً مستمراً، فإن العمليات المكثفة ضد التنظيم قد لا تكون كافية لضمان الاستقرار على المدى الطويل دون استقرار سياسي حقيقي في البلاد.
قانون مناهضة التطبيع
في شباط/ فبراير 2024، أقر الكونغرس الأميركي مشروع قانون يهدف إلى منع تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية.
يمثل هذا القانون خطوة مهمة في مساعي واشنطن لمنع أي تحركات دولية تهدف إلى إعادة الشرعية لحكومة بشار الأسد.
يتضمن القانون عقوبات اقتصادية مشددة على أي دولة أو كيان يحاول استئناف العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية مع دمشق، خاصة تلك الدول العربية التي تسعى إلى إعادة دمج دمشق في المنظومة الإقليمية.
أصبح هذا القانون بمثابة إعلان صريح لرفض الولايات المتحدة قبول الأسد كجزء من الحل السياسي في سوريا، ويعزز من العقوبات المفروضة على الحكومة السورية بموجب قانون “قيصر” الذي أقر في 2019.
وتهدف هذه العقوبات إلى زيادة الضغط على الحكومة، وإجبارها على تقديم تنازلات في مجال حقوق الإنسان والعملية السياسية.
ومع ذلك، يثير هذا الموقف الأميركي تساؤلات حول مدى فعاليته في ظل تراجع النفوذ الأميركي في سوريا، وزيادة التحركات الدبلوماسية لبعض الدول العربية مثل الإمارات والسعودية نحو إعادة تطبيع العلاقات مع دمشق.
الحضور العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا
لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بحوالي 900 جندي في سوريا، يتمركز معظمهم في شمال شرقي البلاد، حيث تسيطر “قسد” على معظم هذه المناطق.
هذه القوات الأميركية تشرف على عمليات تأمين حقول النفط في دير الزور وتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي لـ”قسد” في حربها ضد التنظيمات المتشددة.
لكن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، تتزايد الشكوك حول مستقبل هذا الوجود العسكري.
يختلف توجه المرشحين الرئيسيين للرئاسة حول السياسة الخارجية، فإذا فاز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات، من المتوقع أن تتجه إدارته إلى سحب القوات الأميركية من سوريا، تماشياً مع سياسته السابقة التي ركزت على تقليص التدخل العسكري الخارجي.
في حين يبقى الموقف الأميركي أكثر ضبابية في ظل فوز المرشحة كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن في الرئاسة.
خاصة أن هاريس صرحت في المناظرة الأخيرة مع ترامب بأنه لا يوجد قوات أميركية في أي منطقة قتال في الشرق الأوسط.
الفاعلون الرئيسيون في سوريا
على الرغم من العقوبات الأميركية ومحاولات عزل دمشق دبلوماسياً، لا تزال كل من روسيا وإيران تلعبان دوراً حاسماً في توجيه دفة الأحداث في سوريا.
منذ بداية تدخلها العسكري عام 2015، نجحت روسيا في تثبيت موقف الأسد وتوجيه الأحداث لصالح الحكومة السورية.
وخلال عام 2019، كان التدخل الروسي في شمال شرقي سوريا محوراً رئيسياً في الصراع المستمر. بعد الانسحاب المفاجئ للقوات الأميركية من بعض المناطق، حيث زادت روسيا من وجودها العسكري في المنطقة، وسعت إلى ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة.
وقامت حينها بنشر قوات إضافية في شمال شرقي سوريا، بما في ذلك وحدات من الشرطة العسكرية الروسية، بهدف تعزيز الأمن والاستقرار في المناطق التي كانت تحت سيطرة الأكراد.
وسيرت روسيا دوريات مشتركة مع تركيا في شمال شرقي سوريا في نوفمبر 2019، كجزء من اتفاق سوتشي بين البلدين الذي ينص على تسيير دوريات مشتركة بعمق 10 كم من الحدود السورية التركية، باستثناء مدينة القامشلي.
وبالإضافة إلى دعمها العسكري، تسعى روسيا لتعزيز نفوذها الثقافي والاقتصادي في سوريا، من خلال فتح مدارس ومؤسسات تعليمية تعتمد اللغة الروسية، وزيادة استثماراتها في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
إيران بدورها واصلت تعزيز وجودها العسكري في سوريا من خلال دعم الفصائل المسلحة التي تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد.
تمتلك إيران شبكة واسعة من القواعد العسكرية في سوريا، مما يجعلها لاعباً رئيسياً في أي تسوية سياسية محتملة.
وقد نجحت طهران في ربط الاقتصاد السوري باقتصادها عبر استثمارات طويلة الأجل في مجالات النفط والزراعة، إضافة إلى التواجد المكثف “للحرس الثوري الإيراني” على الأرض.
هذا التمدد الإيراني والروسي يثير قلق الولايات المتحدة التي تجد نفسها عاجزة عن مواجهة هذا النفوذ بشكل فعال، في ظل تراجع اهتمامها بالملف السوري مقارنة بالأولويات الأخرى مثل الحرب الأوكرانية والتنافس مع الصين.
ورغم العقوبات والضغوط الاقتصادية، يبدو أن الحكومة السورية لا تزال قادرة على البقاء بفضل الدعم الروسي والإيراني، وهو ما يعزز من تعقيد المشهد السوري.
من جهة أخرى تعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024 محورية في تحديد مستقبل السياسة الخارجية تجاه سوريا.
فإذا كانت المنافسة بين هاريس والرئيس السابق ترامب، فإن كل مرشح يحمل رؤية مختلفة تمامًا للسياسة الخارجية.
هاريس تنحو على خطى بايدن وتميل إلى تعزيز التحالفات الدولية والبقاء على انخراط الولايات المتحدة في الساحة العالمية، بينما يتبنى ترامب سياسة “أميركا أولاً” التي تركز على تقليص الالتزامات العسكرية في الخارج، وهو ما قد يؤثر بشكل مباشر على الوجود العسكري الأميركي في سوريا.
ترامب سبق وأن أشار إلى رغبته في سحب القوات الأميركية من سوريا خلال فترة ولايته السابقة، ويرجح أنه في حال عودته إلى البيت الأبيض، ستتجه إدارته نحو تقليص هذا الوجود أو سحبه بالكامل.
ومثل هذا القرار سيترك فراغاً استراتيجياً في شمال شرقي سوريا، ما قد يفتح المجال أمام تركيا لتعزيز نفوذها على حساب الأكراد، أو يسمح لإيران وروسيا بمزيد من التوسع في المنطقة.
التحديات الإنسانية
رغم التركيز الكبير على الجوانب العسكرية والسياسية، لا يمكن إغفال البعد الإنساني في الأزمة السورية. منذ اندلاع الحرب في 2011، شهدت البلاد واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث.
تسببت الحرب في نزوح الملايين من السوريين داخل وخارج البلاد، ودمار واسع للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
تعد الولايات المتحدة أحد أكبر المانحين للمساعدات الإنسانية في سوريا، حيث تساهم بشكل كبير في توفير الغذاء والمأوى والرعاية الصحية للمدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
ومع ذلك، فإن استمرار العقوبات الاقتصادية على دمشق، إلى جانب رفض واشنطن والدول الأوروبية تقديم أي مساعدات لإعادة الإعمار دون تحقيق تقدم سياسي، يجعل الوضع الإنساني أكثر تعقيداً.
تفاقم الأوضاع المعيشية للسوريين يعزز من الحاجة إلى حل سياسي شامل، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يواجهون معضلة كبيرة في هذا الصدد تتمثل في “كيف يمكن تحقيق تسوية سياسية دون تقديم تنازلات للحكومة السورية وحلفائها، وفي نفس الوقت الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للغرب في المنطقة؟
مستقبل الأكراد في ظل الضغوط الإقليمية والدولية
بالنسبة للأكراد في شمال شرقي سوريا، فإنهم يعيشون في مفترق طرق صعب. قوات سوريا الديمقراطية، التي كانت شريكاً رئيسياً للولايات المتحدة في محاربة تنظيم “داعش”، تجد نفسها الآن محاطة بأعداء إقليميين وبدون ضمانات دولية كافية لحمايتها.
تركيا تعد “قسد” تهديداً لأمنها القومي، بينما تواصل الحكومة السورية العمل على استعادة السيطرة على المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية.
ومع اقتراب الانتخابات الأميركية، يشعر الأكراد بالقلق إزاء أي تحولات محتملة في السياسة الأميركية.
فإذا تم سحب القوات الأميركية من سوريا، فقد يجد الأكراد أنفسهم مضطرين للبحث عن تسوية مع دمشق، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل حكمهم الذاتي الذي حققوه خلال سنوات الحرب.
ورغم أن الولايات المتحدة لم تتخلَ علناً عن دعمها للأكراد، إلا أن المستقبل يظل غير واضح في ظل الضغوط الإقليمية المتزايدة.
سياسة معقدة ومتشابكة
تُظهر المعطيات الحالية أن السياسة الأميركية تجاه سوريا لا تزال تراوح بين المواقف المبدئية والضرورات العملية.
وبينما تواصل واشنطن فرض العقوبات على الحكومة السورية، وتقديم الدعم العسكري لـ”قسد”، فإنها تبدو عاجزة عن تقديم رؤية متكاملة لحل الأزمة.
وبالتزامن مع ما تواجهه الولايات المتحدة تحديات كبيرة في الداخل بسبب الانتخابات الرئاسية، فإنها تواجه أيضاً تحديات أكبر في الخارج، حيث تتصاعد قوة ونفوذ روسيا وإيران في سوريا على حساب المصالح الغربية.
سيظل مستقبل سوريا مرهوناً ليس فقط بالتطورات الداخلية، ولكن أيضاً بالتحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
وفي ظل غياب اتفاق سياسي شامل، فإن الوضع على الأرض سيستمر في التعقيد، مما يترك الولايات المتحدة أمام خيارات محدودة ومعقدة.