خاص – شمس الدين مطعون/إدلب
لم يكن العم محمود زني (52 عاماً) يدري أن حياته ستنقلب إلى معاناة مستمرة عقب زواجه من إحدى قريباته، وفرحه بمولودته الأولى قبل 30 عاماً. فحين ولدت الطفلة، فاجأه الطبيب بأن دماغها مصاب بتلف جزئي وبالضمور، ما أدى إلى شلل في أطرافها. ثم فاجأه أكثر حين أخبره أن مرضها وراثي ناتج من “زواج الأقارب”.
وتوقف زني، النازح من ريف حلب والمقيم في مخيم عطاء بأطمة شمالي إدلب في أقصى شمال غرب سوريا، عن الإنجاب سنوات بعدما أنجب بنتاً أخرى وولداً، مصابين بالمرض، ثم رُزق بعدها بطفلين صحيحين. اليوم، حياته مليئة بنوبات هستيرية تصاب بها ولاء (30 عاماً) وجميلة (29 عاماً) وأحمد (19 عاماً) إن لم يحصلوا على جرعتهم من الدواء. يقول لـ”963+”: “الدواء عندنا أهم من الطعام والشراب، ثمنه نحو 45 دولاراً شهريا، كما يحتاج الأولاد لنحو 100 دولار شهرياً ثمن حفاضات”.
ويقول فريق “منسقو استجابة سوريا” إن عدد السكان في شمال غرب سوريا يبلغ 6,017,052 نسمة، ويشكل النازحون في المخيمات وخارجها نسبة 49,32 في المئة من العدد الكلي للسكان، في حين يبلغ عدد ذوي الاحتياجات الخاصة 209,838 نسمة، منهم 83,784 نسمة يعيشون في المخيمات.
زيجات مستمرة
لا علاج ناجعاً لمرضهم، “وليس أمامنا إلا الصبر” كما يقول زني، مشيراً إلى أن زواج الأقارب تقليد ما زال متبعاً حتى اليوم، “رغم ابتلاء الناس بكوارث صحية، يكتفون باحتسابها عند الله”.
ينتشر هذا التقليد في الكثير من القرى والبلدات بإدلب وريفها، ما يشكل خطراً كبيراً إذ يرفع احتمال ولادة أجيال مصابة بأمراض وراثية. يقول أسامة شهابي (35 عاماً)، النازح من ريف حماة والمقيم في إدلب، لـ”963+”: “لم يمنع انتشار هذه الأمراض من تكرار زواج الأقارب في عائلتنا”، موضحاً أن الأعمام في العائلة متزوجين من بنات أعمامهم، وهلمّ جرّا.
لم تظهر الأمراض الوراثية إلا في زيجات الجيل الثالث من العائلة نفسها، “فولد أطفال مصابون بمتلازمة داون، أو ما نسميه بالعامية ’المنغولية‘، وبضعف البصر، والحور”، كما يقول شهابي، مضيفاً: “لم أتزوج حتى الآن، وأرفض الزواج من إحدى قريباتي، لكن نصائحي للعائلة لا تجد أذناً مصغية”، لافتاً إلى أن “مع كل ولادة طفل يعاني من هذا المرض، تكتفي العائلة بالقول ’هذا قضاء الله وعلينا الصبر‘، من دون أن يوقفهم هذا الأمر عن الاستمرار في هذا التقليد القاتل”.
أمراض شائعة
يقول الطبيب أحمد علوزي، المتخصص في علاج أمراض الأسرة، لـ”963+” إن أكثر الأمراض شيوعاً، والتي تنتقل بزواج الأقارب، “هي أمراض الدم كالثلاسيميا، وشفة الأرنب، والحنك المشقوق، وفقر الدم المنجلي، إضافة إلى العيوب القلبية الخلقية والضمور الدماغي، والمشكلات في السمع والبصر”.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 7,9 ملايين ولادة أو 6 في المئة من مجموع الولادات سنوياً تعاني خللاً وراثياً تاماً أو جزئياً. وفي سوريا، تقدّر وزارة الصحة في الحكومة السورية عدد مرضى الثلاسيميا في البلاد بنحو 5830 مريضاً في جميع المحافظات في حزيران/يونيو 2022، مضيفةً أن عدد الولادات الجديدة لمرضى الثلاسيميا يتجاوز 200 ولادة سنوياً.
لا أسباب دقيقة لظهور هذه الأمراض وانتقالها. فربما تأتى بعامل وراثي أو بتغيّر جيني، “لكن زواج الأقارب يضاعف احتمالات حدوث عيوب خلقية، حتى لو لم يكن للعائلة تاريخ صحي لأمراض وراثية”، كما يقول علوزي، مضيفاً: “الخطر الأول والأعلى هو زواج ابن العم الأول، وزواج بين أبناء العمومة، وزواج ابن العم من الدرجة الثانية أي الزواج بين أبناء أبناء العمومة، والمجموعة الثانية هي الأخطر، وتقل الخطورة كلما ابتعدت صلة القرابة”.
لكن، هل من علاج؟ يجيب علوزي: “العلاج ممكن لبعض هذه الأمراض، بالتخفيف من أعراضها، إلا أن الشفاء التام مستحيل أو غير مضمون في حالة أمراض الدم مثلاً، كما يمكن إصلاح شفة الأرنب جراحياً”.
الثلاسيميا تنتشر!
ويعقّب الطبيب أيهم جمو، المتخصص في مركز سامز لمعالجة الأورام بإدلب، قائلاً لـ”963+”: “أكثر أمراض زواج الأقارب انتقالاً هي أمراض الدم، وأولها الثلاسيميا، ويليها فقر الدم المنجلي الأقل انتشاراً في منطقتنا”.
وبحسب جمو، الثلاسيميا ثلاثة أنواع: “الكبرى، وتتسبب في انحلال الدم المزمن وانقلاب الدم المتكرر طوال الحياة، إضافة إلى القصور في عمل القلب، والتشمّع في الكبد، والتضخم في الطحال، والفشل في النمو، والترقق في العظام، والسكر الدموي؛ والوسطى، وهي لا تحتاج إلى نقل دم بشكل دوري؛ والصغرى وهي تشكّل لا عرضي، يُسمى المريض بها ’حاملاً للمرض‘، ولا تظهر عليه الأعراض ولا يحتاج إلى علاج أو نقل للدم”.
وتوضح منظمة الصحة العالمية أن نحو 26 في المئة من مجموع الولادات السنوية المصابة بالثلاسيميا بيتا في العالم، موجودة دول إقليم شرق المتوسط. وتعلو نسبة حاملي المرض إلى 50 في المئة للثلاسيميا ألفا و 30 في المئة لفقر الدم المنجلي في بعض بلدان الإقليم.
بحسب جمو، المواليد المولودون بالثلاسيميا ألفا غالباً ما يُتَوَفَّوْنَ بعد فترة قصيرة من الولادة أو يعاجون بنقل الدم طوال الحياة. وفي حالات نادرة، يُمكن علاج هذه الحالة بنقل الخلايا الجذعية. أما المولودون بالثلاسيميا بيتا، فيكونون بصحة جيدة عند الولادة، “لكنهم يصابون بمؤشِّرات وأعراض المرض خلال أول عامين من حياتهم، ويمكن أن ينتج شكل أكثر اعتدالاً، يسمى ثلاسيميا الوسطية، عن جينين متحوِّرين”، كما يقول.
الحلّ الجذري
لا يُمكن منع حدوث الثلاسيميا في معظم الحالات، كما يقول علوزي، “لكن هناك شكلاً من أشكال التشخيص باستخدام تقنيات المساعدة على الإنجاب، والذي يفحص الجنين في مراحله المُبكرة بحثاً عن طفرات وراثية مقترنة بالإخصاب في المختبر. وقد يُساعد هذا الآباء المصابين بالثلاسيميا أو الآباء الحاملين لجينة مَعِيبة في الحصول على أجنة سليمة”.
يضيف: “يتضمَّن هذا الإجراء استرجاع البويضات الناضجة وتخصيبها باستخدام حيوان منوي على طبق في المختبر، ثم تُختبَر الأجنة بحثاً عن جينات مَعِيبة، ولا تزرع إلا الأجنة الخالية من العيوب الوراثية في الرحم”.
لكن، كما يقول، الحلّ الجدي للحد من تفشي الأمراض الوراثية الناتجة من زواج الأقارب، “هو إجراء تحاليل ما قبل الزواج المخبرية، وهي متوافرة في مناطقنا، وتبيّن إذا كان لدى الزوجين أي أعراض تساهم في إنجاب أطفال يعانون من أحد هذه الأمراض، كما أطالب بفرض هذه التحاليل كشرط إجباري لتثبيت الزواج في المحاكم الشرعية”.