في وقت كانت الطائرات الإسرائيلية تدك أغلب معاقل “حزب الله” اللبناني، كانت الديبلوماسية الإيرانية تغرد في مكان مختلف كلياً. راح لسان الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، يُحابي الولايات المتحدة الأميركية بشكل غير معتاد من مسؤول إيراني مرموق. اعتبر الرجل المنتخب حديثاً، أنه يحمل “رسالة السلام والأمن”، ويؤكد على أنه “يجب أن نصنع عالماً يعيش فيه جميع البشر براحة”، مستكملاً التصريح الذي قاله في 16 سبتمبر/أيلول عن أن الإيرانيين هم “إخوة للأميركيين”. ما لم يقله بزشكيان قاله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الذي اعتبر أن بلاده “مستعدة لبدء مفاوضات نووية… إذا كانت الأطراف الأخرى راغبة في ذلك”.
لم يكن وقع التهاون الإيراني مع من وصفتها إيران يوماً بـ”الشيطان الأكبر” جيداً في بيروت. راح بعض الإعلاميين والساسة الذين يدورون في فلك “حزب الله” إلى حدّ انتقاد “التخاذل الإيراني” ومحاباته للولايات المتحدة، دون أن يعني أن أي مسؤول رسمي في هيكلية “حزب الله” انتقد الجانب الإيراني علناً بكلمة. كل ذلك حصل في 23 سبتمبر/أيلول، فيما كانت إسرائيل تقصف أماكن تخزين “حزب الله” لأسلحته في منطقة البقاع شرق لبنان، كما في الجنوب، وحتى في جباله الوعرة والعالية.
وفي لبنان، قضى ما لا يقل عن 550 شخصاً وجُرح أكثر من 2000 في نهار طويل من العنف الإسرائيلي، استخدمت فيه تل أبيب ترسانة كبيرة من الطائرات والمدافع والصواريخ. بعض من قضى نحبه هم مسؤولون في الحزب ومن قادته السياسيين والميدانيين والدينيين، أمثال عضو المجلس السياسي في الحزب محمد صالح، القيادي علي أبو ريّا، والشيخان عبد المنعم مهنا وأمين سعد، اللذان يشغلان أدواراً قيادية وتعبوية في الحزب. أما مسؤول “حزب الله” في الجنوب علي كركي، والذي يُعتبر الرقم 3 في الهيكلية العسكرية للحزب، فأصيب بجراح بليغة حسبما أعلنت وسائل إعلام لبنانية متعددة.
ولطالما اعتمد “حزب الله” على إيران، سواء عسكرياً، سياسياً أو دبلوماسياً. إلا أن الأداء المتراجع للحزب هذه الأيام لا يشي إلا بخلل ما في هيكليته، فيما تردده الميداني واضح جداً. فساعة يصرّح أمين عام الحزب حسن نصرالله أنه سيرد على اغتيال المسؤول العسكري الأعلى فؤاد شكر الذي اغتالته إسرائيل، ولكنه يتحاشى في الواقع الرد. ثم يخسر قيادياً أساسياً آخر هو إبراهيم عقيل، وحوالي 20 قيادياً في “وحدة الرضوان” الأكثر تسليحاً وقدرة، فيتوعد بالرد دون أن يفعل شيئاً. على هذا المنوال، تتصيّد إسرائيل قادة الحزب ومخازنه الكثيرة، فيما هذا الأخير يتفرج ويلملم ضحاياه في معظم الوقت، أو يُطلق بعض الصواريخ التي ينفجر معظمها في الأجواء الإسرائيلية دون أن يكون لها أي أثر جدي في المعركة.
بالمقارنة مع “حرب تموز” عام 2006، كان أداء “حزب الله” أكثر جسارة، إقداماً وتأثيراً. في حينها، كبد إسرائيل مئات الجنود وعشرات الآليات، وحدّ من حركتها البحرية والجوية، ولو بنسب متفاوتة. كانت إيران تدعمه وتطلق يده في الميدان من دون ضوابط، كما ترفده بالدعم في المجال الدبلوماسي كذلك. أما اليوم، فتدير طهران ظهرها لـ”حزب الله”، فيما مسؤولوها يتهافتون للتفاوض مع الغرب. إن أكثر ما قدّمته إيران للحزب منذ اندلاع الحرب الأخيرة مع إسرائيل هو حفنة من البيانات الرسمية الكثيفة الإنشاء.
ومنذ تلك الحرب وحتى اليوم، كبرت جماعة “حزب الله” وزاد عدد أفرادها. لا يملك أحد رقماً حقيقياً عن تعداد عناصر الحزب، إلا أن الجميع يعلم أن عملية تجنيد العناصر تزايدت منذ بداية الحرب السورية عام 2011. ومنذ ذلك الحين، خاض الحزب معارك كثيرة في سوريا وراكم خبرات ميدانية وعملياتية مهمة. كما راكم الأسلحة على أنواعها والصواريخ والذخائر. العديد والخبرة والعتاد، كل ذلك موجود وبكثرة، إلا أن غياب الدعم الإيراني المعتاد يكبّل أيدي الحزب ويجعله طريدة سهلة أمام إسرائيل.
راكم الحزب كل شيء وتجهز للمعركة الفاصلة مع إسرائيل طوال السنوات الماضية، إلا أن الموقف الإيراني الرسمي الداعي إلى “عدم جرّ المنطقة إلى حرب” و”تخفيض مستوى النزاع”، كما قال الرئيس الإيراني نفسه لشبكة “سي إن إن” الأميركية في 24 سبتمبر/أيلول، هو العطب الأساسي الذي يعاني منه الحزب.
لو قُدِّر لـ”حزب الله” أن يحصل على الضوء الأخضر من طهران اليوم، لكانت النتائج الميدانية مختلفة تماماً، وكان يمكن الكلام عن نوع من التكافؤ بين طرفي النزاع. إلا أن إيران ومصالحها تبدو أهم بكثير مما يجري في لبنان، ويهمها الآن أن تسوي علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية وتفتح باب التفاوض مع الرئيس الأميركي جو بايدن قبل نهاية ولايته، وبالتالي إلزام أي رئيس جديد باستكمال التفاوض من حيث انتهت.
تشعر إيران بوهن الجانب الأميركي وقيادته العجوزة، وربما ترى أن الفرصة مناسبة للحصول على بعض المكاسب عبر التفاوض مع واشنطن في الوقت الحالي. كما تتخوّف أيضاً من فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي أعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني في الثامن من مايو/أيار عام 2018. الفرصة الإيرانية سانحة الآن، فيما “حزب الله” سيدفع الثمن وحده ريثما يأتي الرئيس الأميركي الجديد وتعيد طهران دراسة وتقييم حساباتها الإقليمية. حتى ذلك الحين، ستكمل طهران دعم “حزب الله” بالبيانات التي لا تقدم ولا تؤخر، فيما على هذا الأخير قتال عدوه بنفسه من دون القدرة على الرد على ما يتعرض له من قصف وخسائر… وإذلال.