حلب
في صيف 2018، وسط الفوضى والدمار الذي اجتاح سوريا، برز فصيل مسلح جديد يحمل اسماً مألوفاً ومثيراً “فصيل العمشات” أو “فرقة السلطان سليمان شاه”، تيمناً بالجد المؤسس للسلطنة العثمانية.
كان الفصيل يهدف إلى فرض نفسه كقوة فاعلة في ساحة الصراع السوري المستعر.
ولكن خلف هذا الاسم، كانت هناك قصة معقدة تتشابك فيها خيوط السلطة، المال، الجريمة، والنفوذ التركي المتزايد في الشمال السوري.
ميلاد فصيل في زمن الفوضى
تشكل فصيل العمشات تحت مظلة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، خلال عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
كان الهدف من تأسيس الفصيل التصدي للقوات الحكومية السورية والقوات الكردية، وتوسيع النفوذ التركي في شمالي سوريا.
سريعاً، اكتسب الفصيل قوة عسكرية ووسع سيطرته على مناطق واسعة في عفرين وريف حلب الشمالي، ما جعله قوة رئيسية في تلك المناطق.
لكن القوة العسكرية لم تكن نهاية الطموحات، إذ انخرط الفصيل في عمليات استغلال وابتزاز ممنهج للسكان المحليين، ما أدى إلى تراكم ثروة طائلة لقائده “محمد الجاسم” المعروف بـ”أبو عمشة”.
أحداث وانتهاكات
منذ نشأته، لم يكن العمشات مجرد فصيل عسكري يسعى للسيطرة على الأرض فقط، بل تحول إلى كيان اقتصادي يفرض هيمنته على الحياة اليومية للسكان المحليين.
فرض الفصيل ضرائب وإتاوات على المحاصيل الزراعية، خاصة الزيتون، الذي يُعد أهم مورد اقتصادي في عفرين.
وقد تم فرض ضرائب تصل إلى 25% من قيمة المحاصيل، كما سيطر على الأنشطة التجارية والمحروقات في المنطقة، مستغلاً موارده لتمويل عملياته العسكرية واستثمارات قائده أبو عمشة في تركيا وخارجها.
خلال السنوات القليلة الماضية، أثبت فصيل العمشات أنه أكثر من مجرد جماعة مسلحة. ولا تتوفر معلومات دقيقة حول عدد أفراده.
ومع ذلك، يُعرف أن الفصيل يعد من أكبر الفصائل العسكرية في “الجيش الوطني السوري”، وقد أضاف العديد من المقاتلين إلى صفوفه عبر دورات تدريبية مختلفة.
وعلى سبيل المثال، تم الإعلان عن دورة تدريبية كبيرة أضافت حوالي 2000 مقاتل إلى الفصيل.
في عام 2021، بدأت التوترات تتصاعد بينه وبين غرفة القيادة الموحدة “عزم”، بعد أن تم فتح ملفات انتهاكات العمشات، وخاصة في منطقة الشيخ حديد. شملت تلك الانتهاكات الاعتقالات التعسفية، الابتزاز، وحتى استهداف المدنيين.
تم تشكيل لجنة ثلاثية للتحقيق في هذه الجرائم، وفي شباط/ فبراير 2022 أصدرت اللجنة قرارًا بعزل أبو عمشة من منصبه، ومنعه من تولي أي منصب ثوري في المستقبل.
لكن هذا القرار لم يكن أكثر من ورقة بلا تأثير، حيث استمر الفصيل في عملياته غير القانونية دون أي محاسبة فعلية، مما أظهر ضعف المؤسسات القضائية في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية.
في آذار/ مارس 2022، وبعد إدانة أبو عمشة علناً بارتكاب انتهاكات صارخة، ظهر مجدداً في اجتماع رسمي مع قادة آخرين للحكومة السورية المؤقتة، ما أثار موجة انتقادات شعبية بسبب عدم تطبيق القرارات المتخذة بحقه.
هذا الظهور أعطى إشارات واضحة بأن هذا الفصيل، وقائده تحديداً، يتمتعان بحماية سياسية قوية من أنقرة، التي يبدو أنها تغض الطرف عن أفعالهما طالما أن مصالحها الاستراتيجية محمية.
أبو عمشة: صعود قائد مثير للجدل
وُلد محمد حسين الجاسم، المعروف بـ”أبو عمشة”، عام 1987 في قرية “جوصة” بريف حماة.
كانت بداياته متواضعة حيث عمل سائق جرارات زراعية، ولكنه مع اندلاع الحرب في سوريا، انخرط في العمل العسكري وقاد مجموعة صغيرة ضمن صفوف “جبهة ثوار سوريا” بقيادة جمال معروف، وهو أحد أبرز قادة التمرد في الشمال السوري.
في البداية، كان أبو عمشة جزءاً من “جبهة ثوار سوريا” تحت قيادة جمال معروف، الذي كان زعيماً لكتائب “شهداء سوريا”.
معروف قاد عدة معارك ضد قوات الحكومة، ولكنه تعرض للهزيمة على يد (هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة في عام 2014)، ما اضطره للفرار إلى تركيا. مع انهيار نفوذ معروف، وجد أبو عمشة نفسه في وضع يسمح له بتشكيل فصيله الخاص، مستفيداً من الفراغ القيادي الذي تركه معروف.
بعد انتقاله إلى شمال حلب، أسس أبو عمشة لواء السلطان سليمان شاه، الذي سرعان ما أصبح جزءاً من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
وعلى عكس معروف، الذي مثل مرحلة من “المقاومة” ضد الحكومة السورية، تحول أبو عمشة إلى رمز للفصائل الأكثر تشدداً والتي تورطت في انتهاكات حقوق الإنسان بحق المدنيين.
مصادر التمويل والنفوذ
بفضل الدعم التركي والموارد الاقتصادية التي سيطر عليها، تحول العمشات إلى قوة لا يستهان بها.
فرض العمشات سيطرته على الحياة اليومية للسكان، ليس من خلال القتال فحسب، بل عبر الابتزاز وفرض الإتاوات على المدنيين.
وعلى سبيل المثال، في الـ16 من أيلول/سبتمبر الجاري، اقتحم مقاتلو الفصيل قرية كاخرة في عفرين، مما أسفر عن مقتل امرأتين وإصابة العشرات. كما تعرضت نساء كرديات في نفس الشهر لإطلاق النار من قبل عناصر الفصيل أثناء مشاركتهن في تظاهرة نسوية، مما أدى إلى إصابات متعددة.
وتم نهب المنازل، وسرقة الممتلكات، بما في ذلك الحلي والأموال. لم يكن هذا الحدث مجرد حادثة عابرة، بل يعكس السلوك المنهجي للفصيل في استغلال السكان المحليين.
لا يعتمد فصيل العمشات على التمويل التقليدي مثل باقي الفصائل، بل طور نظامًا خاصًا به للاستفادة القصوى من الأراضي التي يسيطر عليها.
واحدة من أبرز طرق التمويل هي فرض الإتاوات على المحاصيل الزراعية، خاصة الزيتون، الذي يُعتبر من المحاصيل الأساسية في تلك المناطق.
يشار إلى أن الفصيل يفرض ضريبة تصل إلى 25% على محصول الزيتون، مما يؤدي إلى جني ملايين الدولارات سنويًا.
إضافة إلى ذلك، يتم فرض رسوم باهظة على استعادة الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها خلال النزاع. يطلب الفصيل من السكان دفع مبالغ ضخمة لاسترداد منازلهم أو محلاتهم التجارية، وهي سياسة لم تترك سوى القليل من الأمل للسكان في استعادة حياتهم الطبيعية.
ويعتمد الفصيل على الاعتقالات التعسفية لجمع الأموال، حيث يتم اختطاف الأفراد وطلب فدية للإفراج عنهم. تتراوح الفدية عادةً بين 1000 إلى 25000 دولار، وقد تم توثيق أكثر من ألفي عملية احتجاز منذ عام 2018.
ومن بين المصادر الأخرى للتمويل، تورط الفصيل في عمليات تهريب المخدرات والاتجار بالبشر.
وتشير تقارير صحفية إلى أن الفصيل يستخدم الحدود السورية التركية لتهريب الأشخاص والمخدرات، مما يدر عليه أرباحًا طائلة تُضاف إلى ثرواته المتراكمة.
وقدرت العائدات بعشرات الملايين من الدولارات سنويًا، وقد استخدم أبو عمشة هذه الأموال لتوسيع نفوذه داخل وخارج سوريا.
لم يكن نشاط الفصيل مقتصرًا على الداخل السوري، بل امتد إلى خارج الحدود، حيث تورط أبو عمشة في الاستثمار في تركيا من خلال إنشاء شركات تجارية.
السفير أوتو، وكالة بيع السيارات التي أسسها أبو عمشة، كانت واحدة من هذه الاستثمارات. يقع مقرها الرئيسي في إسطنبول، وتدير مواقع متعددة في جنوب تركيا تحت إدارة قادة من لواء السلطان سليمان شاه.
ويُعتقد أن الشركة كانت تُستخدم كواجهة لاستثمار دخله غير المشروع بالشراكة مع أحمد إحسان فياض الهايس، زعيم فصيل أحرار الشرقية، الذي سبق أن أدرج ضمن قائمة العقوبات الأميركية بسبب ارتباطه بانتهاكات حقوق الإنسان.
العقوبات الأميركية
في 17 آب/ أغسطس 2023، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على أبو عمشة وشقيقه وليد حسين الجاسم، وسيف بولاد المعروف بـ”أبو بكر”، قائد فرقة الحمزة.
جاءت هذه العقوبات نتيجة لارتكابهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك التهجير القسري للسكان الأكراد والاستيلاء على ممتلكاتهم.
شملت العقوبات تجميد جميع ممتلكاتهم داخل الولايات المتحدة أو تلك الخاضعة لسيطرة أشخاص أمريكيين.
وتنص عقوبات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) على حظر أي كيانات مملوكة بنسبة 50% أو أكثر من قبل الأشخاص المحظورين.
كذلك، تحظر لوائح المكتب أي تعاملات من قبل أشخاص أميركيين أو داخل الولايات المتحدة تتعلق بممتلكات أو مصالح هؤلاء الأشخاص المحظورين.
وتمت الإشارة إلى أن قوة هذه العقوبات تأتي ليس فقط من فرض القيود ولكن من إمكانية إزالة الأفراد من قائمة العقوبات إذا تغير سلوكهم.
أبو عمشة: قائد تحت العقوبات
أبو عمشة، بصفته قائد لواء السلطان سليمان شاه، تم إدراجه ضمن القائمة السوداء للعقوبات الأميركية نتيجة لتورطه المباشر في ارتكاب انتهاكات جسيمة.
كان على رأس تلك الانتهاكات عملية التهجير القسري للسكان الأكراد من عفرين والاستيلاء على ممتلكاتهم، بالإضافة إلى تورطه في عمليات اختطاف وابتزاز السكان المحليين.
وزُعم أن هذه العمليات كانت جزءًا من خطة منظمة لتعظيم إيرادات الفصيل، وهو ما يُقدر بأنه يدر عشرات الملايين من الدولارات سنويًا.
كما وردت تقارير عن قيامه باغتصاب زوجة أحد مقاتلي الفصيل وتهديدها وأسرتها بالصمت.
يد أبو عمشة اليمنى
وليد حسين الجاسم، الأخ الأصغر لأبو عمشة، لم يكن بعيداً عن هذه الأنشطة. لعب وليد دوراً رئيسياً في قيادة الفصيل أثناء غياب شقيقه عندما ذهب للقتال في ليبيا.
تورط وليد في العديد من الجرائم، بما في ذلك الاعتداء الجنسي والقتل. وفقاً لتقارير متعددة، قاد وليد عمليات اختطاف وابتزاز، كما وردت تقارير عن قتله لسجين لم يتمكن من دفع الفدية بعد تعرضه لشهر من التعذيب.
تم إدراج وليد الجاسم أيضاً ضمن العقوبات الأميركية، كونه يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح لواء السلطان سليمان شاه.
إلى جانب أبو عمشة ووليد الجاسم، تم إدراج سيف بولاد المعروف بـ”أبو بكر”، قائد فرقة الحمزة، على قائمة العقوبات الأميركية.
فرقة الحمزة كانت متورطة في عمليات قمع وحشية للسكان المحليين في شمالي سوريا، بما في ذلك اختطاف النساء الكرديات وإساءة معاملة السجناء.
كان سيف بولاد الوجه الإعلامي للفرقة وظهر في عدة مقاطع دعائية تُروج للفصيل.
العقوبات المفروضة على أبو عمشة وشركائه تُمثل خطوة مهمة في محاولة تقويض أنشطة الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا.
يُعد تجميد الأصول وحظر التعاملات المالية من أبرز الأدوات التي استخدمتها الولايات المتحدة للضغط على هؤلاء القادة.
وقد أشارت وزارة الخزانة إلى أن الهدف من هذه العقوبات ليس فقط العقاب، بل إحداث تغيير إيجابي في السلوك.
شراكات مشبوهة
لم يكن أبو عمشة مجرد قائد فصيل مسلح في سوريا، بل تطورت علاقاته لتشمل شخصيات في تركيا لها نفوذ كبير، بما في ذلك زعماء المافيا.
في تموز/ يوليو 2024، أُثيرت تقارير عن لقاءات بين أبو عمشة وزعيم المافيا التركية علاء الدين تشاكيجي، وهو شخصية بارزة في عالم الجريمة.
هذا اللقاء أثار تساؤلات حول مدى تورط أبو عمشة في عمليات تهريب واتجار غير مشروعة، ومدى التغطية التي توفرها له بعض الجهات التركية.
لا يزال فصيل العمشات تحت قيادة أبو عمشة وشقيقه وليد يمثل تحديًا كبيرًا للسلطات المحلية والدولية.
ورغم العقوبات المفروضة عليه، يستمر الفصيل في نشاطاته بفضل الدعم التركي وعلاقاته المتشابكة مع قادة الفصائل الأخرى.