دمشق
بدءاً من صيف هذا العام، تزايدت المعطيات التي تشير إلى رغبة أطراف من المعارضة السورية فتح باب التفاوض مع دمشق. برز هذا التطور الجديد أكثر بعد حديث عن تقدم أطراف من المعارضة السورية، بقيادة معاذ الخطيب ورياض حجاب، بطلب للعراق للتوسط في محادثات مع دمشق. رغم ذلك، نفى الخطيب في وقت لاحق علمه بهذه المبادرة، في حين لم يصدر أي تعليق رسمي من جانب حجاب.
ومع تصاعد حدة التوترات الإقليمية والصراعات الداخلية، أبدى العراق استعداده للعب دور الوسيط في هذه المحادثات.
فبعد إعلان وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين عن إمكانية رعاية بلاده لقاءً بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، توجهت الأنظار نحو بغداد كجسر محتمل للتفاوض بين المعارضة السورية والحكومة.
العراق، الذي يسعى لتعزيز دوره الإقليمي، وجد في هذا الوضع فرصة لتوظيف إمكانياته الدبلوماسية والجغرافية في تخفيف الصراعات في المنطقة، خصوصًا تلك المتعلقة بسوريا وتركيا.
تأكيد ونفي
مسؤول أمني سوري رفيع كشف لموقع “963+” عن تفاصيل مثيرة تتعلق بمبادرة جديدة في الأفق، إذ قال: “المعارضان السوريان معاذ الخطيب ورياض حجاب طلبا من بغداد رعاية حوار مع حكومة الرئيس بشار الأسد”.
لكن، وبينما انتشرت الأخبار بشكل كبير، جاء النفي من معاذ الخطيب نفسه، الذي رد عبر اتصال بـ”963+” قائلاً: “لم أسمع بشيء كهذا إلا من خلال وسائل الإعلام، وليس لي أي علاقة بهذا الحوار”.
لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد أضاف المسؤول الأمني تفاصيل جديدة قائلاً: “المعارضة وبقيادة الخطيب، التي تتلقى دعماً من دول الخليج، وخاصة السعودية، هي التي طلبت الوساطة من بغداد”. وكان هذا الكلام عن دور خليجي واضح في هذا التحرك، مما أضاف طبقة أخرى من التعقيد للمشهد.
مصادر أمنية أكدت أن بغداد نقلت الطلب إلى دمشق رسمياً، وأن الأخيرة لم ترفضه بعد. وكان الترقب سيد الموقف، حيث أشار المسؤول إلى أن “لقاء بين معاذ الخطيب ومسؤولين سوريين قد يُعقد قريباً في بغداد”. وأضافت تلك المصادر أن الولايات المتحدة لم تعارض هذا التحرك العراقي، مما فتح الباب أمام احتمالات جديدة.
وخلال اتصال آخر مع “963+”، قال المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي، سبهان ملا جياد: “بغداد قد توسطت لعقد حوار بين الحكومة السورية وأطراف من المعارضة التي زارت بغداد وأربيل خلال الفترة الماضية”. كان واضحاً أن الحكومة العراقية لديها أولويات ديبلوماسية تتمثل في إدارة حوار بين دمشق وأنقرة، ولكن أيضاً مع المعارضة السورية.
وفي خلفية هذا المشهد، أثارت الاجتماعات بين شخصيات بارزة مثل رئيس “تيار الحكمة” عمار الحكيم ومؤسس مركز جسور للدراسات محمد سرميني، تساؤلات حول طبيعة التحركات القادمة.
وكتب سرميني في صفحته على “فيسبوك” بعد لقائه الحكيم: “أجرينا نقاشات مفيدة حول أهمية تعزيز لغة الحوار التي تحتاجها المنطقة في ظل التحديات الحالية”. كانت هذه العبارة تحمل بين طياتها رسائل أعمق حول دور العراق المتوقع في الفترة المقبلة.
خلفية العلاقات بين العراق وسوريا
منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، دخلت العلاقات بين سوريا والعراق مرحلة جديدة من التوتر والحذر. العراق، بقيادة نوري المالكي في ذلك الوقت، كان يخشى من تأثيرات الصراع السوري على استقرار العراق الداخلي، الذي كان يمر بفترة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي. ومع تشكيل “المجلس الوطني السوري” في أواخر 2011، تبنى العراق موقفًا أكثر حذرًا، لكنه في النهاية اتبع الموقف الإيراني الداعم للحكومة السورية.
تأثرت العلاقات السياسية بين البلدين بالعديد من العوامل الدولية والإقليمية. في حين حافظت إيران على دعمها المطلق لدمشق، حاولت الولايات المتحدة فرض ضغوط على العراق لتبني موقف أكثر صرامة تجاه الحكومة السورية. ومع ذلك، لم يستجب العراق لهذه الضغوط بشكل كامل، مفضلًا الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف المعنية.
تركيا أيضًا كانت لها تأثيرات كبيرة على العلاقات العراقية السورية، خاصة فيما يتعلق بمسألة الأكراد. تواجد القوات التركية في شمالي سوريا والمخاوف العراقية من تصاعد نفوذ الأكراد في المنطقة جعل العلاقات الثلاثية بين بغداد ودمشق وأنقرة شديدة التعقيد.
جهود عراقية
في محاولة لتخفيف التوترات بين سوريا وتركيا، قدم العراق نفسه كوسيط محتمل لإعادة بناء العلاقات بين البلدين. حيث سعى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تحقيق تقارب بين أنقرة ودمشق، متأملًا أن يؤدي ذلك إلى تهدئة التوترات الإقليمية وتحقيق استقرار أكبر في المنطقة.
بيد أن التحديات التي تواجه هذه الوساطة متعددة، من بينها إصرار الحكومة السورية على انسحاب القوات التركية من المناطق السورية، وهو ما يعقد فرص نجاح تلك المبادرات.
ومن إحدى أبرز التحولات التي شهدتها العلاقات العراقية السورية في الآونة الأخيرة كانت جهود العراق لإعادة سوريا إلى الحضن العربي.
فبعد سنوات من العزلة التي عاشتها سوريا في ظل العقوبات الدولية والعزلة العربية، لعب العراق دورًا مهمًا في إعادة دمشق إلى الجامعة العربية.
وقد جاء هذا التطور في سياق رغبة العراق في تعزيز مكانته الإقليمية من خلال تقديم مبادرات تصب في مصلحة الاستقرار في المنطقة. من جهتها، استجابت سوريا لهذه الجهود بحذر، حيث وجدت فيها فرصة لتحسين علاقاتها مع دول الجوار بعد سنوات من التوتر.
علاقات اقتصادية
شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تقلبات كبيرة منذ بداية الحرب السورية. قبل الحرب، كان العراق يشكل واحدة من أهم الأسواق للصادرات السورية. كانت سوريا تستورد النفط العراقي المكرر وتصدر للعراق العديد من المنتجات الصناعية والزراعية. لكن بعد اندلاع الحرب، انهارت العلاقات التجارية بشكل كبير بسبب تدمير البنية التحتية في سوريا وإغلاق المعابر الحدودية نتيجة للصراع المستمر.
إلا أن الأمور بدأت تتغير تدريجيًا بعد هزيمة تنظيم “داعش” واستعادة سيطرة الحكومة السورية على أجزاء كبيرة من البلاد. مع افتتاح المعابر الحدودية بين البلدين، عاد النشاط التجاري جزئيًا، ما سمح بعودة التدفقات التجارية إلى حد ما.
في شباط/ فبراير 2024، شهدت العلاقات الاقتصادية تطورًا ملحوظًا عندما عقدت اللجنة المشتركة السورية العراقية اجتماعها الثاني عشر في دمشق. أسفر الاجتماع عن توقيع أربع مذكرات تفاهم في مجالات متعددة، تشمل التجارة والاستثمار والصناعة والمالية والبنية التحتية والطاقة. هذه الاتفاقيات عكست رغبة البلدين في تعزيز العلاقات الاقتصادية وتجاوز آثار الحرب التي أثرت على شعبيهما.
تحديات أمنية
إلى جانب العلاقات الاقتصادية والسياسية، تشترك العراق وسوريا في العديد من التحديات الأمنية. التنظيمات المسلحة مثل تنظيم “داعش” استغلت الفوضى في سوريا للتمدد نحو الأراضي العراقية.
شهدت الحدود المشتركة بين البلدين حوادث عنف متكررة، حيث استخدم التنظيم المتطرف الأراضي السورية كنقطة انطلاق لشن هجماته على العراق.
رغم القضاء على جزء كبير من قوة التنظيم في العراق وسوريا، إلا أن التحديات الأمنية ما تزال قائمة. تأمين الحدود الطويلة بين البلدين هو أحد أبرز القضايا التي تشغل كلا الحكومتين.
وتعمل بغداد ودمشق على تعزيز التعاون الأمني من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية وشن حملات مشتركة لضمان عدم عودة الفوضى إلى هذه المناطق.
لم تقتصر التأثيرات السورية على العراق على الجانب الأمني والاقتصادي فحسب، بل شملت أيضًا جوانب اجتماعية وثقافية عميقة. تدفق اللاجئين السوريين إلى العراق، خاصة إلى إقليم كردستان، كان له تأثيرات كبيرة على المجتمعات المحلية. وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، استقبل العراق نحو 260 ألف لاجئ سوري، مما أدى إلى تغيرات ديموغرافية في بعض المناطق.
رغم أن وجود اللاجئين أسهم في زيادة النشاط الاقتصادي في بعض القطاعات، إلا أنه زاد أيضًا من الضغط على البنية التحتية والخدمات العامة مثل الصحة والتعليم. هذا بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي فرضها تدفق أعداد كبيرة من الأشخاص من مناطق النزاع، ما أثار مخاوف بشأن استغلال بعض العناصر المسلحة للوضع لشن هجمات أو إعادة تنظيم صفوفها.
علاقات اجتماعية وثقافية
تتميز العلاقات الاجتماعية والثقافية بين سوريا والعراق بتداخل تاريخي وجغرافي طويل. مناطق الحدود المشتركة مثل الجزيرة بين نهري دجلة والفرات كانت دائمًا منطقة للتواصل بين الشعبين. القبائل والعشائر التي تنتشر على جانبي الحدود، مثل قبيلة شمر، تشكل رابطًا اجتماعيًا قويًا يعزز العلاقات بين البلدين.
مع اندلاع الحرب السورية، تضررت هذه الروابط الاجتماعية إلى حد ما بسبب النزوح والهجرة. لكن ومع استعادة الهدوء النسبي في بعض المناطق، بدأت العلاقات الاجتماعية تعود تدريجيًا إلى سابق عهدها، خاصة مع تشجيع الحكومتين على تعزيز التواصل بين العائلات والقبائل المقسمة على طرفي الحدود.
وبالمحصلة، فمنذ عام 2011 وحتى عام 2024، شهدت العلاقات السورية العراقية تحولات كبيرة، تأثرت بالأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في البلدين والمنطقة. ورغم التحديات الهائلة، تظهر الجهود المبذولة من الطرفين لتحسين العلاقات واستعادة التعاون عبر مجالات متعددة، سواء من خلال الوساطات السياسية أو تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني.