خاص – حسن العلي/دير الزور
في ظلّ النزاع المسلح الذي شهدته محافظة دير الزور في السنوات الماضية، تكبدت القطاعات المختلفة خسائر جسيمة، أبرزها القطاع التربوي، إذ تعرّضت المدارس للتدمير والنهب، وتكرر انقطاع الطلاب عن الدراسة، ما أثر سلباً على مستقبلهم التعليمي والمهني.
ما زالت معاناة أغلبية سكان مناطق دير الزور مستمرة بسبب استمرار النزاعات المسلحة والاشتباكات التي تحصل، وما زالت العائلات هنا تحمل ندوباً نفسية بسبب أصابة أبنائها في حوادث سابقة أثناء المرحلة الدراسية، وهذا يمنعهم من إرسال أبنائهم إلى المدارس.
يقول وحيد الدخيل، أحد سكان بلدة الشحيل بريف دير الزور الشرقي، لـ”963+”: “كان ابني محمد في التاسعة من عمره، مدلل العائلة، يتمتع بشخصية مرحة. وكان يحب مدرسته، متحمساً دائماً لأداء واجباته المدرسية، ويحظى بمحبة معلميه وأصدقائه، وفي يوم مشؤوم، من دون سابق إنذار، كان محمد وأصدقاؤه يلعبون في ساحة المدرسة القريبة من نهر الفرات، فسقطت بقربهم قذيفتا هاون بسبب اشتباكات بين “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) والقوات الحكومية على ضفتي النهر”.
حين ورده الخبر، ركض الدخيل إلى المدرسة، لا يريد شيئاً إلا العثور على ابنه محمد. أخبره أحد المعلمين أن عدداً من الطلاب أصيبوا، بينهم محمد، ونُقل إلى مستشفى السهيل الجراحي لتلقي العلاج.
سيخسر مستقبله
ويروي الدخيل: “وصلت المستشفى فوجدت قدمه مصابة بشظايا، لكنه كان واعياً. خضع لجراحة صعبة ولعلاج منزلي طويل حتى تعافى جسدياً. لكن الآثار النفسية باقية حتى اليوم”، مضيفاً: “بعدما تعافى تماماً، حاولت تشجيعه على مواجهة مخاوفه والعودة إلى المدرسة، لكن والدته ترفض خوفاً على حياته. بدلاً من ذلك، كانت تساعده في الدراسة في المنزل حتى يشعر بالراحة. إلا أن هذا القرار قد يكلّفه مستقبله”.
وبمرور الوقت، بدأ محمد يزور أصدقاءه، “وكنا نعلم أن حالتهم لا تختلف كثيراً عن حالته، فهم أيضاً تركوا المدارس”. ويعبر الدخيل عن فرحه باستعادة ابنه محمد أخيراً شغفه بالتعلم واللعب، “بفضل الدعم الكبير الذي نقدمه له. لكن، مع حلول الفصل الدراسي الجديد، لا نستطيع إرسال محمد إلى المدرسة خوفاً من تكرار نفس الحادثة. لذلك خصصت له معلمين يقدمون له دروساً خصوصية في المنزل مع مجموعة من أطفال الحي. رغم أنني لا أملك الموارد المالية الكافية لتغطية تلك المصاريف، إلا أنني أرى أنها أكثر أماناً من إرساله إلى المدرسة.
دمرت النزاعات المسلحة في دير الزور أكثر من 80 مدرسة، فيما تحولت أغلبية المدارس الباقية إلى مراكز عسكرية. فيما تعتمد العملية التعليمية على منازل مستأجرة غير مؤهلة للتعليم، وهذا أيضاً أحد أسباب أمتناع الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس.
إلا أن وسائل إعلام محلية تنقل عن سهيل الحيجي، مدير التربية التابعة للحكومة السورية بدير الزور، قوله إن 166 ألف طالب وطالبة منتسبون إلى مدارس محافظة دير الزور للعام الدراسي 2024 – 2025، يدرسون في 394 مدرسة. ويضيف: “يتم تأهيل 14 مدرسة ضمن الخطة الاستثمارية لمديرية التربية، و11 مدرسة يتم تأهيلها بالتعاون مع المنظمات الدولية الداعمة لقطاع التعليمي”.
الوضع كارثي
نادر الأحمد، من ريف دير الزور الشرقي، أب لطفلين، يتحدث عن الوضع الدراسي الكارثي في منطقته، فيشير إلى أن المدارس هناك أصيبت بتدمير جزئي، حيث تم إغلاق العديد منها نتيجة القصف الذي شهدته المنطقة في الفترات السابقة. رغم جهود ترميم بعض المدارس ومحاولة إعادة تأهيلها، فإن الوضع ما زال مقلقاً بسبب نقص المعلمين والمرافق التعليمية.
يضيف الأحمد: “في ظل النزاعات المسلحة المستمرة في المنطقة، كالقصف المتبادل بين القوات الحكومية و’قسد‘، إضافة إلى الاشتباكات الداخلية التي تقوم بها خلايا تنظيم “داعش”، المصنف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول آسيوية وعربية أخرى، فإن المدنيين، وخصوصاً الأطفال، هم دائماً الضحايا. من هذا المنطلق، لا أستطيع تحمل فكرة إرسال أطفالي إلى المدرسة، لأنهم سيكونون حتماً في خطر”.
غير مستقرة
يتابع الأحمد: “ما زالت الأوضاع الأمنية غير مستقرة، وهناك دائماً خوف من القصف أو الاشتباكات التي قد تحدث في أي لحظة. إضافة إلى ذلك، يعاني العديد من الأطفال من نقص في المواد الدراسية، ما يؤثر سلباً على تحصيلهم العلمي. كما أن الضغوط النفسية الناتجة عن الأوضاع المحيطة بهم أثرت بشكل كبير على تركيزهم، فالكثير منهم يعاني الكوابيس بسبب ما شهدوه”.
يؤكد أنه كي يتمكن من إرسال أطفاله إلى المدرسة، “يجب أن يكون الوضع الأمني مستقراً، وأن تتوفر بيئة تعليمية آمنة ومناسبة”، يقول: “إذا كانت هناك حماية كافية، سأفكر في إرسال أطفالي إلى المدارس حتى لا يفوتهم قطار التعليم”.
اليوم، بدأ الأحمد بتوفير دروس خصوصية لأطفاله من قبل معلمين محليين في المنزل. لكنه يعبر عن قلقه قائلاً: “هذه الدروس غير كافية. فنحن بحاجة إلى خيارات تعليمية أفضل، مثل التعليم المنزلي أو المراكز التعليمية الخاصة”، مشيراً إلى أن حالته ليست فريدة، بل تشاركها عشرات العائلات التي تخشى إرسال أطفالها إلى المدارس بسبب الوضع الأمني المتدهور.
لا استسلام
الظروف صعبة جداً… لكن المسؤولين التربويين بالمحافظة لم يستسلموا للواقع المرير، بل بذلوا جهوداً حثيثة لإعادة تأهيل البنية التحتية للمدارس المتضررة، وتوفير التجهيزات والمواد التعليمية اللازمة للعملية التعليمية، وتشجيع أولياء الأمور على إعادة إرسال أبنائهم إلى المدارس، مؤكدين أهمية التعليم في هذه المرحلة الحرجة، ونجحوا في إقناع أسر كثيرة بأهمية استمرار أبنائهم في التعليم، رغم الظروف الصعبة التي يمرون بها.
يقول شهاب الدوري، مسؤول قسم الدعم النفسي بمديرية التربية بدير الزور: “إن النزاع المسلح الذي شهدته منطقتنا ترك آثاراً كارثية على عملية التعليم. فقد نزح عدد كبير من الطلبة واضطروا لترك مدارسهم والانقطاع عن التعليم فترات طويلة، وهذا أثر سلباً على مستواهم التعليمي وتحصيلهم العلمي”.
ويضيف الدوري لـ”963+” أن تدمير العديد من المدارس في أثناء المواجهات العسكرية أدى إلى نقص كبير في البنى التحتية التعليمية، “فالمدارس الباقية غير كافية لاستيعاب جميع الطلاب، ما يجبرنا على تقسيم الدوام إلى فترتين، صباحية ومسائية، وعلينا كهيئة تعليمية أن نواجه تحديات جمة في توفير التجهيزات والمستلزمات اللازمة للعام الدراسي الجديد”.
ضمان المستقبل
أمام هذه الصعوبات، ناشد الدوري أولياء الأمور ضرورة إرسال أبنائهم إلى المدارس لاستكمال تعليمهم، “فذلك أولوية قصوى في هذه المرحلة الصعبة لضمان مستقبل أفضل لأبنائنا، ولبناء مجتمع متعلم وقادر على النهوض”.
ويتابع الدوري: “رغم النزاعات المسلحة التي تشهدها المنطقة بين الحين والأخر، فإننا نتخذ أكبر قدر من إجراءات الحماية لحماية الأطفال في المدارس، ونوفّر الدعم النفسي للأطفال الذين تعرضوا لإصابات سابقة في المدارس وتشجيع كافة الطلاب على مواصلة العملية التعليمية”.
ووفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، يوجد نحو 2,4 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و 17 سنة خارج المدرسة، من أصل 5,5 ملايين طفل في سن الدراسة في عموم البلاد. وتقول أديل خضر، المديرة الإقليمية لليونيسف: “يحتاج هؤلاء الأطفال إلى فرصة. إنهم بحاجة إلى حلّ سلمي طويل الأمد، لكن لا يمكننا أن ننتظر حتى يحدث ذلك. من الأهمية بمكان ضمان حصول الأطفال والأسر ليس فقط على الخدمات الأساسية، لكننا أيضًا نقوم بتزويد الأطفال بالمهارات اللازمة لبناء مستقبلهم”.
وعلى الرغم من التحديات والعقبات، يبقى الأمل في قلوب المسؤولين التعليميين في دير الزور. فهم مصممون على مواصلة جهودهم لإعادة الحياة إلى المدارس، وتوفير بيئة تعليمية آمنة وداعمة لأبناء المحافظة. وهذا ما يدفعهم للاستمرار في العمل، من أجل بناء مستقبل أفضل لجيل اليوم وغد.