قد تكون عبارة “التراجع التكتيكي” التي أطلقها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، أفضل ما يلخّص استراتيجية إيران الخارجية هذه الأيام. فعلى الرغم من الوعود والتهديدات العالية النبرة بالرد على إسرائيل بعد أن اغتالت رئيس المكتب السياسي لـ”حركة حماس” إسماعيل هنية في طهران، إلا أن الرد الإيراني الموعود لم يأتِ البتة، فيما أكملت إسرائيل عملية تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، وكان آخرها استهداف مصالحها في سوريا في الثامن من سبتمبر/أيلول الحالي.
والملفت في حديث المرشد الأعلى أنه جاء خلال استقبال أهالي “الشهداء” في العاصمة الإيرانية في 9 سبتمبر/أيلول، فيما كان حديثه مهدئاً للخواطر وإعلاناً لنوع من عقيدة دفاعية جديدة. قال الرجل الأقوى في النظام الإيراني: “لا ضرر في التراجع التكتيكي أمام العدو، والتراجع قد يكون في الميدانين العسكري أو السياسي”، مغلقاً الباب على احتمال تسعير الحرب المحدودة الدائرة في المنطقة، ومُخرجاً إيران من مشهد احتمال القتال المباشر مع عدوها اللدود؛ إسرائيل.
على المقلب الآخر، لا يبدو أن إسرائيل تكترث لما تريده إيران، وهي تتصرف على أساس أن أي رد حقيقي لن يأتي، مكتفية بقصف “حزب الله” و”حركة حماس” بشكل شبه يومي، وسوريا بشكل أسبوعي كما حصل في مصياف الواقعة جنوب غرب مدينة حماة السورية، والذي تزامن مع استهداف لبعض المصالح الإيرانية الأخرى في سوريا، من بينها مصانع للصواريخ الدقيقة المبنية تحت الأرض. وعلى الرغم من أن هذا الهجوم كان الأكثر شدة منذ سنوات طويلة، إلا أن قصف إسرائيل لمصالح إيران في سوريا لا يزال مستمراً منذ العام 2013.
أمام الجرأة الإسرائيلية في استكمال اعتداءاتها على المصالح الإيرانية، قللت إيران من أهمية الاعتداء الأخير عليها، نافية في بيان صدر عن السفارة الإيرانية في دمشق أن أياً من مصالحها أو مستشاريها قد أصيب. والوهن الإيراني الواضح، سواء في جنوب لبنان حيث يدفع “حزب الله” ثمناً عسكرياً يومياً، أو في استهداف مصالح طهران دون القدرة أو النية على فعل شيء، لا يؤكد إلا أن شبه الحرب الدائرة في المنطقة تُقاد من قِبل طرف واحد: إسرائيل تهجم على أعدائها، فيما هؤلاء حائرون حول كيفية إطفاء نيران الحرب والخروج من المواجهة بأقل ضرر ممكن.
أما كلام خامنئي، فيدل على شكل من أشكال الاستراتيجية الإيرانية المحدّثة، والتي يمكن اختصارها بـ”عقيدة الدفاع الاستراتيجية”. لقد كانت إيران، لسنوات خلت، تبادر في الهجوم والتقدم. تنشر فصائلها في سوريا وتعزز من قدرات “حزب الله” وتدعم “الحشد الشعبي” في العراق و”أنصار الله – الحوثيين” في اليمن. أما اليوم، فتبدو دولة ذات نفوذ متراجع، جلّ ما يهمها هو الحفاظ على المكتسبات التي حققتها في السنوات الماضية، وانتظار حاكم البيت الأبيض الجديد ليُعاد فتح باب التفاوض بين واشنطن وطهران حول الملف النووي الإيراني كما حول نفوذ إيران في المنطقة ومكاسبها.
وإن كانت عقيدة الدفاع الاستراتيجية الإيرانية واحدة من أركان السياسة الخارجية الإيرانية كما تقول الكاتبة الأكاديمية الأميركية – الإيرانية أريان طبطبائي في كتابها “لا هجوم ولا انهزام: استراتيجية الأمن القومي الإيراني”، وتعكس “توجهات النظام الإيراني في التعامل مع التحديات التي تواجه تقويض النظام الداخلي.. والتي تبقى استراتيجياته الدفاعية في الداخل متعاكسة مع استراتيجياته الهجومية في الأقاليم القريبة جغرافياً منه”. غير أن الملفت هو تحوّل هذه الاستراتيجية في السنة الأخيرة للدفاع خارج الحدود الإيرانية كذلك، والسعي إلى إبقاء نفوذ إيران كما هو عليه في الأقاليم المجاورة.
إن أبرز وأعمق ما غيّرته الحرب الإسرائيلية على خصومها في السنة الأخيرة، هو تحوّل السياسة الخارجية الإيرانية من حالة الهجوم والتقدم إلى حالة الدفاع في مراكز نفوذها الإقليمي. وهذا ما يمكن لمسه عند الغوص في أوضاع وكلاء إيران في الدول المجاورة، فلا القوى الإيرانية وفصائلها العسكرية في سوريا تتقدم ميدانياً، ولا “حزب الله” استطاع إيصال رئيس للجمهورية في لبنان ليقبض على المزيد من السلطة في بيروت، ولا تقدّم “الحوثيون” شبراً واحداً خارج الأراضي التي يسيطرون عليها. كذلك الأمر، شارف استثمار طهران المادي واللوجستي والسياسي في “حركة حماس” على الإفلاس.
أما خصائص “عقيدة الدفاع الاستراتيجي الإيرانية” فتقوم، في الوقت الحالي، على المحافظة على مراكزها خارج حدودها، والتي صرّح حول حدودها كبير مستشاري المرشد للشؤون العسكرية يحيى صفوي، الذي اعتبر أن “عمق دفاعنا الاستراتيجي هو البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر”. بالإضافة إلى الاستمرار في دعم المنظمات والفصائل والميليشيات الموالية لإيران لضمان استمرار نفوذها القائم حالياً، وتأمين الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية.
في المقابل، يبدو تكتيك إسرائيل أكثر صرامة في التعامل مع إيران، حيث إن إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، بوصفه حاجز الدفاع الأول عن النظام الإيراني، هو المدخل الحقيقي لتقويض النظام الإيراني ذاته. صحيح أن الطريق إلى هذا الهدف لا يزال بعيداً، أو قد لا يتحقق البتة، إلا أن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، تعرف أن إيقاف قلب النظام الإيراني عن العمل يحتاج أولاً إلى بتر أطرافه الخارجية.