دمشق
بين التوتر والتقارب، تتشكل ملامح حكاية معقدة تجمع بين الأردن وسوريا، تمتد فصولها بين عامي 2011 و2024، سنوات من الصراع والحروب والأزمات، عاشت خلالها علاقات البلدين تذبذبًا مستمرًا. كان كل عام يضيف طبقة جديدة من التوترات أو محاولات للتقارب، فكل خطوة إلى الأمام كانت تصاحبها أخرى إلى الخلف.
بدأت التعقيدات عام 2011، عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في سوريا ضد نظام بشار الأسد، فاهتزت العلاقات الدافئة بين عمان ودمشق. حينها ظهر الملك عبدالله الثاني على الساحة الدولية، داعيًا الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي، لتصبح الأردن بذلك إحدى الدول العربية التي تعارض بقاء حكومة الأسد في سدة الحكم.
لكن الحرب لم تكتفِ بتأجيج المواقف السياسية فحسب، بل دفعت أيضًا بمئات الآلاف من السوريين عبر الحدود إلى الأردن. كان عام 2012 بداية تدفق اللاجئين، ليجد الأردن نفسه أمام أزمة إنسانية ضخمة.
هؤلاء اللاجئون الذين تجاوز عددهم المليون، شكلوا ضغطًا على البنية التحتية والموارد المحدودة في المملكة، مما وضع الحكومة في مواجهة تحديات لا يمكن تجاهلها. وبالتزامن مع هذا، كانت الحدود الشمالية للأردن تتحول إلى منطقة توتر وصراع، حيث أصبحت مسرحًا لمواجهات غير مباشرة بين الحكومة السورية وحلفائها من جهة، وبين الأردن وإسرائيل ودول الخليج من جهة أخرى.
في عام 2015، اتخذت عمان قرارًا حاسمًا بإغلاق الحدود مع سوريا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية. ذلك الإغلاق لم يكن مجرد إجراء أمني، بل كان إشارة واضحة إلى تراجع العلاقات بين البلدين. الحركة التجارية التي كانت تعبر الحدود توقفت فجأة، وتراجعت التبادلات الاقتصادية إلى حدها الأدنى. ولم يكن هذا التراجع مقتصرًا على الجانب الاقتصادي فقط، بل كانت العلاقات السياسية أيضًا في حالة ركود.
ومع ذلك، لم يكن الأفق مسدودًا تمامًا. ففي أكتوبر 2018، تم إعادة فتح الحدود جزئيًا بين البلدين. وعلى الرغم من عودة التبادل التجاري، إلا أن حجم تلك التبادلات ظل متواضعًا مقارنة بما كان عليه قبل الحرب. كانت القيود الأمنية والجائحة الصحية المفروضة بسبب فيروس كورونا عائقين رئيسيين أمام عودة العلاقات إلى طبيعتها.
فصل جديد من العلاقات
في عام 2021، بدأ فصل جديد من العلاقات بين الأردن وسوريا. أعلن الملك عبد الله الثاني استعداد الأردن للانفتاح مجددًا على دمشق. وفي خطوة رمزية، تم إعادة فتح معبر جابر-نصيب بالكامل، ما سمح بزيادة التبادلات التجارية بين البلدين. لكن التحديات الأمنية، سيما المتعلقة بتهريب المخدرات والأسلحة، ظلت تلقي بظلالها على تلك التحسينات في العلاقات الاقتصادية.
بين 2022 و2023، شهدت المنطقة الحدودية بين البلدين نشاطًا مكثفًا لتهريب المخدرات، مما دفع الأردن لتكثيف جهوده الأمنية لمكافحة تلك الظاهرة. كانت المنطقة الجنوبية من سوريا، خاصة المناطق المحيطة بدرعا، تعج بوجود عناصر “حزب الله” والقوات الإيرانية، وهو ما أثار قلقًا كبيرًا لدى الجانب الأردني.
في مطلع عام 2023، جاء التحول في المشهد الديبلوماسي حين قام وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بزيارة إلى دمشق، في زيارة تعد الأولى منذ اندلاع الحرب. كان هدف الزيارة إنسانيًا في المقام الأول بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة.
ورغم الطابع الإنساني للزيارة، حملت في طياتها دلالات سياسية واضحة، تجلت لاحقًا في الدور الأردني الفاعل في إعادة سوريا إلى الجامعة العربية في مايو 2023. قادت عمان جهودًا دبلوماسية من خلال مبادرة “اللاورقة” لتنسيق خطوات حل الأزمة السورية ضمن إطار “خطوة بخطوة”.
توترات الحدود
في يوليو 2023، أجرى الصفدي زيارة ثانية إلى سوريا، حيث ركزت هذه المرة على معالجة قضية اللاجئين السوريين وتهريب المخدرات. تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمكافحة التهريب عبر الحدود، وهو ملف شكل تحديًا مستمرًا أمام استقرار العلاقات الثنائية.
إلا أن العام 2024 شهد تصاعدًا جديدًا للتوترات. ففي قمة الشرق الأوسط العالمية في نيويورك، أشار الملك عبد الله إلى شكوكه في قدرة الرئيس الأسد على السيطرة الكاملة على الأراضي السورية، مؤكدًا على وجود تهديدات أمنية مستمرة على طول الحدود.
وفي يناير 2024، نفذت القوات الجوية الأردنية ضربات داخل سوريا استهدفت مواقع تُستخدم لتهريب المخدرات. أثارت هذه الهجمات ردود فعل غاضبة من دمشق، التي اعتبرتها غير مبررة وتؤثر سلبًا على مسار العلاقات. ورغم ذلك، أكد الجانب السوري رغبته في احتواء التوتر والحفاظ على العلاقات الأخوية مع الأردن.
لم تكن مشكلة تهريب المخدرات مجرد مسألة أمنية عابرة، بل تعمقت جذورها مع مرور الوقت. في عام 2021، قدرت عائدات تجارة الكبتاغون في سوريا بـ 5.7 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريبًا ربع الناتج المحلي الإجمالي السوري. كان تهريب المخدرات، لا سيما الكبتاغون، بمثابة شريان مالي للحكومة السورية في مواجهة العقوبات الدولية.
على الصعيد الأمني، واصلت الأردن تعزيز إجراءاتها الأمنية على الحدود، مستخدمة تقنيات حديثة مثل الطائرات المسيّرة لمراقبة ومكافحة التهريب. كما تم إحباط العديد من محاولات التهريب خلال الفترة من 2021 إلى 2024، حيث صادرت السلطات الأردنية ملايين الحبوب المخدرة، وألقت القبض على عشرات المهربين.
وتتطلب مشكلة التهريب تعاونًا إقليميًا يتجاوز الحدود بين الأردن وسوريا ليشمل العراق ودولًا أخرى، بحسب ما قال الأكاديمي والمحلل السياسي الأردني، خالد شنيكات، لموقع “963+”.
تحسن العلاقات الاقتصادية
وفي الوقت الذي كانت فيه الحدود تشهد هذه التحديات الأمنية المتزايدة، لم تتوقف الجهود الأردنية عن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دمشق. ارتفعت قيمة الصادرات الأردنية إلى سوريا في 2024، وتم تنظيم منتدى اقتصادي في دمشق، يعكس رغبة البلدين في تعزيز التعاون الاقتصادي رغم التوترات الأمنية المستمرة.
أما قضية اللاجئين السوريين، فقد شكلت تحديًا إنسانيًا وأمنيًا كبيرًا للأردن. ومع استضافة المملكة لما يقرب من 1.3 مليون لاجئ سوري، ظل العبء على مواردها والبنية التحتية هائلًا. وفي زيارة الصفدي إلى دمشق في يوليو 2023، أكد على ضرورة تسهيل العودة الطوعية لهؤلاء اللاجئين إلى ديارهم، شرط تحسن الأوضاع في سوريا. غير أن هذه العودة لم تكن ممكنة بشكل فوري، مع استمرار التحديات الأمنية والاقتصادية في سوريا.
ومع استقرار الأوضاع في سوريا، أشار شنيكات إلى أنه “يجب تسهيل عودة هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم”.
ولكن المحلل السياسي، استدرك بالقول إن هذه العودة “يجب أن تكون طوعية، وترتبط بتحسن الظروف الأمنية والاقتصادية في سوريا”.