دمشق
تعد العلاقات السورية-التركية واحدة من أكثر الملفات الشائكة. منذ اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011، شهدت العلاقات بين دمشق وأنقرة تحولات كبيرة، انتقلت من التعاون الوثيق إلى القطيعة شبه الكاملة. إلا أن الحديث عن إعادة تطبيع العلاقات بين الجانبين عاد إلى الواجهة بقوة خلال الأشهر القليلة الماضية، بدفع من قوى دولية وإقليمية. فما هي محطات هذا المسار؟ وما هي التحديات التي تقف أمامه؟
موسكو تحرك المياه الراكدة
في خطوة وصفها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأنها “شق الأنفس”، تمكنت روسيا العام الماضي من جمع ممثلين عن الحكومة السورية ونظيرتها التركية، في محادثات نادرة.
ورغم أن هذه المحادثات لم تفضِ إلى نتائج ملموسة، إلا أنها أعادت فتح قنوات التواصل بين الجانبين حول قضايا خلافية مثل انسحاب القوات التركية من سوريا ومحاربة الإرهاب.
لافروف أكد الأسبوع الماضي، وجود خطط لعقد اجتماع قريب بين أنقرة ودمشق، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار مساعٍ لتحريك عجلة التطبيع.
يعتقد المحلل الروسي أندريه أونتيكوف، في تصريح صحفي، أن “موسكو تسعى من خلال هذه الوساطة إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، وإعادة ترتيب موازين القوى في سوريا، خاصة في ظل التوترات مع الولايات المتحدة وأوروبا”.
ويرى أن موسكو لا تملك رفاهية الانتظار، إذ إن استقرار المنطقة يخدم رؤيتها لنظام دولي متعدد الأقطاب، يعتمد على التفاهم بين القوى الإقليمية الرئيسية.
دمشق تضع شروطها
من جهتها، تظل دمشق متمسكة بموقفها. الرئيس السوري بشار الأسد، وفي خطاب له أمام “مجلس الشعب“، في 25 آب/أغسطس الماضي، شدد على أن أي عملية تطبيع مع تركيا يجب أن تستند إلى “ورقة مبادئ” تُعالج القضايا الرئيسية مثل انسحاب القوات التركية من شمال سوريا، ووقف دعم الفصائل المعارضة.
الأسد أشار إلى أن هذه الورقة من شأنها تنظيم المفاوضات ومنع المناورات السياسية، مؤكداً أن تحقيق هذه الشروط هو السبيل الوحيد لإعادة العلاقات إلى طبيعتها.
ويرى محللون سياسيون، أن موقف دمشق يستند إلى إدراكها ضعف موقفها العسكري والاقتصادي، وأنها تسعى للحصول على ضمانات ملموسة قبل الدخول في أي اتفاق.
ويشيرون في الوقت نفسه إلى أن الأسد يدرك تماماً أن انسحاب تركيا من سوريا ليس شرطاً لبدء اللقاءات، لكنه يعتبره شرطاً ضرورياً لإعادة العلاقات إلى طبيعتها. ويرون أن دمشق “تراهن على عامل الوقت والضغوط الروسية على تركيا لتحقيق مكاسب في هذا الملف”.
ويرى كاتب سوي، أن “الأسد لن يحصل على تطبيع مجاني، فهو سيطبع عملياً مع المناطق السورية الخارجة عن سيطرته، والتي ستعبرها الشاحنات التجارية ذهاباً وإياباً، أي أن العملية كلها على الأرجح لن تكون في اتجاه تسوية نهائية في سوريا، إنما نوع من التطبيع مع انعدام التسوية”.
أنقرة بين المصالح والضغوط
في المقابل، ترى تركيا في التطبيع مع دمشق وسيلة لحماية أمنها القومي، خاصة في مواجهة التهديدات التي تشكلها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي البلاد.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أشار إلى أن “أنقرة مستعدة للتفاوض، لكنها تطالب بضمانات تتعلق بمكافحة الإرهاب وتأمين الحدود”.
وفي الرابع من أيلول/سبتمبر الجاري، قال عمر تشليك، المتحدث باسم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، إن آلية التطبيع مع الحكومة السورية تتألف من ثلاث مستويات: استخباراتي ووزاري ورئاسي.
وفي مؤتمر صحفي عقده تشليك في العاصمة التركية أنقرة، قال إن كلاً من الطرفين سيضع شروطه، ليبدأ البحث عن قواسم مشتركة، مضيفاً: “دور أجهزة الاستخبارات هو تطوير الملفات قيد البحث، لتقدم لاحقاً إلى اجتماع وزاري مشترك للخارجية والدفاع في البلدين، ثم تُرفع بعدها لرئيسي البلدين. وما زالت الجهود اليوم عند المستوى الاستخباري، ولم تصل بعد إلى المستوى الوزاري، وبالتالي لا شيء حالياً ليتخذ الرئيسان فيه أي قرار”.
وبحسب تشليك، “ستوضع شروط أنقرة وشروط دمشق على مائدة البحث، وسيبدأ التفاوض للوصول إلى نقاط مشتركة، ويلتقي الرئيسان بعدها بناء على تقويم هذه التطورات”.
ويرى المحلل التركي علي أسمر، في تصريح أن أنقرة تدرك أن قدرتها على فرض شروطها ليست مطلقة، خاصة في ظل تراجع الدعم الشعبي للحكومة التركية بسبب أزمة اللاجئين السوريين وتزايد الضغوط الاقتصادية. ويشير أسمر إلى أن تركيا ترى في عملية التطبيع وسيلة لتخفيف هذه الضغوط، لكنها تخشى في الوقت نفسه من فقدان نفوذها في سوريا لصالح دمشق وحلفائها الإيرانيين والروس.
مديرة مكتب أنقرة، في صحيفة “ديلي صباح” التركية، ديلارا أصلان، نقلت عن المتحدث باسم الخارجية التركية، أونجو كيسيلي، أن تركيا ترحب بجهود روسيا لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.
وتابع المتحدث، “نريد أن نرى سوريا التي عاد إليها شعبها، والتي تعيش في سلام مع شعبها، والتي حققت تسوية وطنية حقيقية بخطوات اتخذت في إطار المطالب والتوقعات المشروعة المذكورة في مجلس الأمن الدولي”.
المتحدث أضاف، “هدفنا ليس فقط بالنسبة لتركيا، بل من أجل سوريا تصدّر الاستقرار بدلًا من عدم الاستقرار لمنطقتها، والتي تعمل على تطوير اقتصادها على أساس المنفعة المتبادلة وتعزيز ازدهار شعبها”، وفق ما نقلته أصلان عبر “إكس“.
بدوره، شدد الكاتب الصحفي عبد القادر سلفي، في مقال له في صحيفة “حرييت” التركية، على أهمية عقد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، مشيراً إلى أن تصاعد التوترات الإقليمية يزيد من ضرورة هذا اللقاء. واعتبر سلفي أن احتمالات اندلاع حرب إقليمية في المنطقة تدفع باتجاه تسريع خطوات التطبيع بين أنقرة ودمشق.
وأوضح الكاتب، المقرب من دوائر صنع القرار التركية، أن “دبلوماسية الأبواب الخلفية” فعالة حالياً في محاولة ترتيب اللقاء بين الطرفين، إلا أن موعداً محدداً لم يتم الاتفاق عليه بعد.
ولفت إلى أن أهمية هذا اللقاء ازدادت بشكل كبير في ظل التوترات المتصاعدة بين إيران ولبنان ودولة الاحتلال، محذراً من أن تأخير الحوار بين أنقرة ودمشق قد يؤدي إلى تقسيم أكبر في سوريا ويزيد من تعقيد الوضع الإقليمي.
واختتم سلفي مقاله بتأكيده أن تركيا ستكون قادرة على التعامل مع أي تصعيد محتمل، بينما قد تتحول سوريا إلى ساحة للصراعات الإقليمية، مما يبرز الحاجة الملحة لإعادة الحوار بين الجانبين.
عقبات إضافية: الدور الإيراني والأميركي
لكن تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة لا يعتمد فقط على إرادة الجانبين. إيران التي تُعد حليفاً قوياً للحكومة السورية، تنظر إلى هذه المحاولات بحذر، إذ تخشى أن يؤدي هذا التقارب إلى تعزيز النفوذ التركي على حساب مصالحها في سوريا، بحسب محللين.
في الوقت نفسه، يبقى الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات عاملاً معقداً، أمام تقدم مسار التطبيع، بحسب ما يرى محللون روس، حيث تعارض واشنطن أي اتفاق قد يُضعف موقف “قسد” حليفتها في الحرب ضد “داعش”.
وترى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وفق ما جاء على لسان إلهام أحمد، الرئيسة المشاركة لدائرة العلاقات الخارجية لدى الإدارة الذاتية، في تصريحات لقناة “الحدث” السعودية، قبل أيام، بأن “دمشق تبحث عن الحوار مع تركيا وترفضه معنا، والروس يعلمون تماماً بنوايانا في شمال شرقي سوريا”، مشيرةً إلى أن “التهديد التركي للمنطقة متواصل، والحل السياسي الشامل يُخرج كافة القوات الأجنبية من سوريا”.
وإذ دعا لافروف الأكراد إلى الإدراك أن مستقبلهم سيكون دائماً في إطار وحدة سوريا، وإلى التفاوض مع الحكومة السورية بشأن حقوقهم كأقلية قومية، أكدت أحمد أن دمشق “غير منفتحة على الحوار معنا أو تطبيق الحل السياسي”.
وأضافت أن “الإدارة الذاتية تنظر بعين الشك إلى المفاوضات الجارية اليوم بشأن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ولافروف يعلم أن المشروع في شمال وشرق سوريا يريد الحل في سوريا كلها، لا في جزء منها، ويعلم بتفاصيل حواراتنا مع دمشق”، مؤكدةً أن “التواصل مستمر مع الروس، من دون التوصل إلى أي نتيجة”.
وعن حال المعارضة السورية المدعومة من أنقرة في شمال غربي البلاد، ففي الوقت الذي أكدت فيه تركيا عدم نيتها التخلي عنها، وسعيها لإيجاد حل سلمي يضمن مصالحها الأمنية، إلا أن الفترة الممتدة من من 1 تموز/ يوليو 2024 إلى 5 أيلول/ سبتمبر الجاري، شهدت ردود فعل متباينة من المعارضة السورية تجاه جهود التطبيع.
إذ شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في شمال غربي سوريا احتجاجات واسعة ضد التقارب بين أنقرة ودمشق. المتظاهرون أغلقوا مقار الائتلاف الوطني المعارض والحكومة السورية المؤقتة، معبرين عن رفضهم لمواقف المعارضة التي وصفوها بالخجولة تجاه مسار التطبيع.
هل يتحرك قطار التطبيع؟
مع كل هذه التعقيدات، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن أن يتحرك قطار التطبيع بين دمشق وأنقرة نحو محطة نهائية؟ لكن الإجابة ليست سهلة.
ففي حين يرى بعض المحللين أن الطريق ما زال طويلاً، يعتقد آخرون أن هناك إمكانية لتسريع الخطى إذا ما ظهرت تغييرات ميدانية أو سياسية مثل انسحاب الولايات المتحدة من سوريا أو تصاعد الضغوط الداخلية في تركيا بسبب قضية اللاجئين، تدفع الطرفين لتقديم تنازلات.
وكان الحديث عن تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة قد تصاعد خلال الأشهر الماضية، بعدما نشطت وساطة قادها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، رفدتها مبادرات روسية لتقريب وجهات النظر بين الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان.
في نهاية المطاف، يبدو أن مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة سيظل مليئاً بالتحديات، وقد يكون الطريق نحو تطبيع كامل طويلاً ووعراً.
ومع ذلك، فإن هذه المحاولات تعكس رغبة الجانبين، وربما تحت الضغط الروسي، في استكشاف فرص جديدة لإعادة بناء العلاقات، رغم كل ما يحيط بها من عقبات.