في حيّ دويلعة الدمشقي، حيث اعتادت كنيسة مار إلياس أن تحتضن صلوات الناس وهمسات الرجاء، دوّى انفجار انتحاري مزق سكون القدّاس وأعاد إلى الأذهان مشاهد كانت العاصمة تظن أنها تجاوزتها. كل الأصابع دلّت على تنظيم “داعش”، حيث استهدف الكنيسة مباشرة، موقعاً عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين ودماراً واسعاً في المكان. لم يكن الانفجار الانتحاري حدثاً أمنياً عابراً، بل رسالة واضحة من تنظيم لم يمت، بل يتقن اختيار توقيته، ويضرب في عمق الرموز، ويُشلّع فكرة الأمن والأمان.
لم تكن هذه العملية استثناء. فمنذ مطلع عام 2025، نفذ تنظيم “داعش” 109 عملية أمنية بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”. التنظيم الذي ظنه العالم قد مات ودُفن تحت سابع أرض، عاد كأفعى قُطع ذيلها، لكنها لم تلفظ أنفاسها بعد. القتل بات أكثر خبثاً، والتسلل أكثر براعة، لكأن الخلافة المزعومة لم تنتهِ، بل اتخذت لنفسها شكلاً جديداً، بعيداً عن الإعلام والخرائط، وقريباً جداً من هشاشة الدولة وغياب الرؤية.
إنها عودة الأشباح إلى مسرحٍ لم يُغلق بعد. لم يُسدل الستار على الحرب، بل توقف العرض مؤقتاً بانتظار سيناريو آخر. “داعش” ليس تنظيماً فقط، بل سردية تنتعش حيث يفشل الآخرون في صناعة المعنى. إنها نتيجة قبل أن تكون سبباً، وهي ردّ على سؤال لم يُطرح بعد: ماذا يعني أن تكون سورياً في بلد لم يُقرر بعد إن كان لا يزال دولة؟
في زمن حكم أحمد الشرع، لا تكفي الخطب ولا الكلمات الرخوة لمواجهة هذا النوع من الأخطار، ولا حتى المقابلات التلفزيونية الهادفة للإبهار لا للبناء. فالرجل الذي يتلمس طريقه بين ركام المدن وبين دهاليز السلام مع إسرائيل والحروب المستعرة في المنطقة، يُدرك أن التحديات لا تأتي دائماً من طاولة التفاوض، بل من الظلال التي تنمو في العتمة. و “داعش”، كما هو معروف، تنظيم لا يفاوض. إنه يولد من الفراغ، ويقتات من التناقض، ويزدهر حيث تنهار المعاني.
الشرع، الذي يحاول اليوم أن يقدّم سوريا بوجه جديد للعالم، قد يجد نفسه مضطراً لفتح جبهة قديمة جديدة. لكن الجبهة هذه المرة ليست عسكرية فقط، بل فكرية، اجتماعية، تنموية، وأمنية. أما هزيمة “داعش” الحقيقية، فتبدأ حين تُحرم بيئته من الذريعة، وحين يُستبدل الغضب بالأمل، والفراغ بالتنمية، والتهميش بالمواطنة.
الذاكرة السورية قصيرة، لكنها لا تنسى. ومن يمر على خرائط الموت في أطراف البلاد، يدرك أنّ الدولة التي تركت مواطنيها يبحثون عن الخبز والأمان، لا تستطيع محاربتهم حين يختارون الهامش على المركز، والفوضى على النظام. فمن أين يبدأ الشرع إعادة نسج العقد الاجتماعي؟ من أي نقطة تبدأ المصالحة حين يكون الوطن نفسه سؤالاً معلقاً في الهواء؟
في أطراف البلاد والبادية السورية، لا تنمو “داعش” من شهوة القتل فقط، بل من شعور مزمن بأنّ الدولة لم تعد تعني شيئاً. هناك، لا تُرى دمشق وحلب إلا على شاشات الأخبار. والعدو، في نظر السكان، هو من يتجاهل صراخهم، لا من يهاجمهم. لهذا، فإن أمن الشرع لن يُبنى على القمع، بل على المصالحة، لا على عسكرة الفضاء العام وتجنيس المقاتلين الأجانب، بل على ترميم العلاقة بين الأرض والهوية. لا على إعلان الحداد لثلاثة أيام على ضحايا الكنيسة، بل على جعل الأمن هيبة.
فهل يجرؤ النظام على الاعتراف بأنّ الاستبداد، ولو صمد، لا يصنع ولاء؟ وأن بناء الدولة لا يتم بفرض الصمت، بل بإعادة توزيع الصوت؟ فـ”داعش” لن تنهزم بقصف جديد، بل بحضور جديد: مدرسة تُفتح، مستوصف يُرمَّم، بلدية تُنتخب، وعلم لا يُرفع فوق الجثث.
هل يستطيع نظام ما بعد الحرب أن يخوض حرباً ضد الأشباح؟ وهل تملك سوريا الجديدة أدوات غير تلك التي دكت المدن طوال سنوات الحرب؟ الشرع أمام معادلة دقيقة: إن ذهب بعيداً في المواجهة الأمنية، استيقظت الجراح القديمة؛ وإن تهاون، عاد التنظيم لينحر الدولة من أطرافها ووسطها وكل مكان.
لكن بين السيف والحكمة، ثمة طريق ثالث. طريق لا يتجاهل الخطر، ولا يضخمه. بل يتعامل معه كرائحة كريهة في بيت نصفه مهدّم، ونصفه الآخر بانتظار الترميم. على الشرع أن يُنصت لصوت الأرياف وأطراف سوريا، لصوت الجنود والناس الذين يموتون بلا ضوء، ولصوت القرى التي تخشى النوم كي لا تصحو على دم.
ربما لا يحتاج الشرع إلى خطاب جديد، بل إلى خريطة جديدة للعدالة. عدالة تبدأ من الاعتراف، لا من الإنكار، من الإحساس بأنّ كل حجر في سوريا يستحق أن يُبنى فوقه وطن، لا أن يُستعمل كحاجز أو قبر.
إن دولة السلام لا تُبنى على ركام الحرب فقط، بل على القدرة على نزع فتيل الانفجارات القادمة. فكما أن الأمن يُخاط في غرف مغلقة، فإنّ الحرب ضد “داعش” يجب أن تُخاض في الأزقة والأنهار والمدارس والإعلام والقلوب والأفكار.
الشرع أمام لحظة فاصلة: أن يُثبت أنه رئيس لكل سوريا، لا لعاصمتها وبعض مدنها فقط. أن لا يُغريه بريق العلاقات الدولية فينسى ألغام الداخل. فالحرب التي لم تنتهِ بعد، ليست تلك التي في الجبهات، بل التي في العقول… في ذاكرة من خسروا كل شيء، وما زالوا يبحثون عن سبب للانتماء.
وحدها الدولة التي تُشعِر أبناءها بأنهم ليسوا فائضاً جغرافياً، هي القادرة على خنق التنظيمات العابرة للهوية. وحدها الدولة التي تنقل صوت البادية إلى المركز، وتمنح الفقير حقه قبل أن تطالب بولائه، هي التي تستحق البقاء.
فهل يفعلها الشرع؟ هل يقود بلاده في سلامها كما وعد، وفي حربها كما يجب؟ أم أن الخلافة، وإن قُتلت، ستعود لتلد نفسها من جديد، على ضفاف نهر الخابور أو في أزقة دمشق الضيقة؟ الجواب، كالعادة، في الغد، لكن إن أراد حاكم سوريا الجديد فعلاً أن يقود دولة، عليه أن يبدأ من القرى المهملة، من البادية، ومن أطراف البلاد المنسية… من حيث لا توجد كاميرات ولا خطابات، بل فقط رجال في الظل ينتظرون فرصة للانتقام، أو وعداً بالحياة طال انتظاره.