شهدت سوريا في الآونة الأخيرة طروحات ووجهات نظر متباينة حول مستقبل نظام الإدارة والحكم خاصة فيما يتعلق بإمكانية تطبيق اللامركزية الإدارية أو السياسية بالتالي الانتهاء من النظام المركزي بشكل جزئي أو كامل يأتي ذلك في ظلّ تعقيدات مجتمعية وسياسية تمر بها البلاد خلال الفترة الحالية.
وفي حوار خاص مع الكاتب والباحث السوري سلام الكواكبي، يجيب فيه عن العديد من الأسئلة حول نظام الإدارة الأنسب لسوريا خلال الفترة الحالية والمقبلة وكيف يمكن بناء هوية وطنية جامعة في ظل نظام سياسي محدد؟
وفيما يلي الحوار كاملاً:
ما الذي تحتاجه سوريا في الوقت الراهن فيما يتعلق بنظام الإدارة؟
الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تُحسم في لقاء عابر على العشاء، كما حدث في ما سُمي بـ”الحوار الوطني” الذي استمر سبع ساعات فقط وجمع ما يقارب ألف شخص. بل تتطلب نقاشًا وطنيًا عميقًا، على مستوى مؤتمر وطني جامع على أقل تقدير.
سوريا اليوم في أمسّ الحاجة إلى عمليات إنقاذ شاملة: إدارية، اقتصادية، مالية، سياسية، أمنية، وأخلاقية. كما أنها بحاجة ماسة إلى تعزيز ثقافة المواطنة، التي لا تزال شبه مجهولة لدى أجيال كاملة من السوريين.
اختيار شكل النظام الإداري خلال مرحلة إعادة الإعمار لا يمكن نسخه أو تطبيقه كما هو في مراحل لاحقة، كمرحلة التعافي، أو النهوض، أو النمو المتسارع. فلكل مرحلة خصوصياتها، ولكل حالة أدواتها وحلولها المناسبة. وبصرف النظر عن شكل الإدارة، تبقى الحاجة قائمة إلى ترسيخ مبادئ أساسية لا غنى عنها: الشفافية، والتشاور، والمشاركة، والاندماج، والمساواة. فهذه القيم تشكل الأساس لأي إدارة فاعلة وعادلة.
هل الدعوات لتطبيق نظام اللامركزية في سوريا بالوقت الحالي أمراً صائباً؟
هناك ضرورة ملحّة للعمل على توسيع الفهم العام لمفهوم اللامركزية، ورفع الالتباسات المفاهيمية المرتبطة به. فالكثير من السوريين، وربما بحسن نية نابعة من الحرص الوطني، ولكن مع غياب المعرفة الكافية، يعتقدون أن اللامركزية تمهّد لانفصال فعلي أو محتمل عن الكيان الوطني. ولذلك، من الضروري البدء بجهد جاد في التثقيف السياسي والمعرفي، يشمل شرائح واسعة من السوريين، سواء من العامة أو من النخب، قبل الإقدام على أي تغيير في النظامين الإداري والسياسي القائمين منذ الاستقلال.
وينبغي أن يكون هذا التغيير، إن حدث، نتيجة لسياسة مدروسة ومتأنية، تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السوري وخصوصيته. حتى الدول التي عُرفت بتشددها في المركزية، كفرنسا التي طوّرت النموذج “اليعقوبي”، قد شهدت تحولًا نحو أنماط من اللامركزية، خاصة في مجالات مثل الخدمات العامة، والصحة، والتعليم، والإدارة الذاتية للموارد والسياحة، وغيرها من القطاعات الحيوية.
إن تطبيق اللامركزية الإدارية أو حتى أبعد من ذلك يتطلب وعيًا سياسيًا عميقًا، ونضوجًا كاملًا في الممارسة المواطنية، وهو ما لا يتحقق إلا بمرور الزمن وبتكريس قيم المشاركة والمسؤولية على مختلف المستويات.
قد تساهم المركزية في تعزيز السلطة المطلقة للرئيس، كما قد تعمل اللامركزية على ترسيخ المحاصصة السياسية بناءً على الانتماءات الطائفية أو المناطقية.. فما هو الأنسب برأيك؟
في ظل حضور الديكتاتورية والاستبداد، لا جدوى من أي نقاش حول المركزية أو اللامركزية، إذ يغدو مثل هذا الحديث بلا معنى. وقد خبر السوريون هذا الواقع على مدى عقود من الحكم، سواء تحت هيمنة الحزب الواحد أو سلطة الفرد الواحد، حيث تم التعامل مع المناطق والأطراف بازدراء، وتُجاهلت حتى القوانين التي وُضعت رسميًا لتنظيم الإدارة المحلية. فوزارة الإدارة المحلية، على سبيل المثال، لم تكن سوى واجهة شكلية، لا يتجاوز دورها الوساطة أو التسبب في تعقيد الأمور.
لا يمكن الحديث عن مركزية فاعلة أو لامركزية فعالة إلا في إطار نظام ديمقراطي، ولو في حدوده الدنيا. أما النظريات المتعددة حول المركزية أو اللامركزية، فهي تعكس رؤى نابعة من حرص وطني على المصلحة العامة، وهذا النقاش صحي ومشروع في بيئة ديمقراطية. أما في ظل حكم استبدادي، فإن الحديث عن أي شكل إداري هو نوع من العبث، لأن الاستبداد بطبيعته يفرغ كل النماذج من مضمونها.
بعد انطلاق الحراك الشعبي في سوريا، اتجهت العديد من المناطق في شمال غربي البلاد وشرقها نحو تطبيق نظام اللامركزية، كيف تنظر إلى هذه التجربة؟
أعتقد أنه من الضروري التمييز بين منطقتين رئيسيتين في المشهد السوري: شمال غرب سوريا وشمال شرقها. هذا التمييز لا يقوم فقط على الجغرافيا، بل يتعلق بطبيعة الإدارة وأهدافها في كل من المنطقتين.
في شمال غرب سوريا، تمكنت بعض الفصائل المعارضة للنظام السوري من فرض سيطرتها الإدارية والسياسية والعسكرية. ويُنظر إلى هذه المناطق، من قبل شريحة واسعة من السوريين، على أنها “محررة” من سلطة النظام المركزي في دمشق. ومع ذلك، فإن أدبيات هذه الفصائل لا تتضمن أي إشارات إلى مفهوم “اللامركزية”، ما يعني أنها لا تتبنى هذا الطرح، بل ربما لا تعنيه على الإطلاق.
أما في شمال شرق سوريا، فالوضع مختلف تمامًا. فالقوى المسيطرة هناك، وعلى رأسها الإدارة الذاتية، تعتبر اللامركزية الإدارية والسياسية الحد الأدنى المقبول في أي تسوية سياسية مستقبلية مع المركز. وقد أدى ذلك إلى اتهام هذه الإدارة من قبل بعض الأطراف بالسعي إلى الانفصال، لا سيما بسبب صلاتها البنيوية بحزب العمال الكردستاني. غير أن المسؤولين العسكريين والسياسيين في تلك المنطقة أكدوا مرارًا أنهم لا يسعون إلى الانفصال، بل إلى ترسيخ حقهم في تقرير المصير من خلال نموذج حكم لامركزي ضمن الإطار الوطني السوري. ويستند هذا الموقف إلى تجربة تاريخية سلبية مع الدولة المركزية، حيث حُرم أبناء هذه المنطقة، وخاصة الأكراد، من حقوقهم الثقافية واللغوية، بل إن بعضهم لم يُمنح حتى الأوراق الثبوتية.
كيف يمكن بناء هوية وطنية جامعة في ظل نظام سياسي محدد؟
إنه مسار طويل وشاق، خاصة بعد أن أمضى النظام البائد عقودًا في تفتيت الوطن، وتأجيل معالجة الخلافات، وتوسيع الهوّة بين المواطنين. لقد نجح، يا للأسف، فيما لم ينجح فيه المستعمرون أنفسهم، حين طبّق بفعالية سياسة “فرّق تسُد” بين أبناء الشعب الواحد.
وفي هذا المسار، تصبح العملية التربوية نقطة الانطلاق الأساسية، يليها تفعيل العمل المدني، ثم إصلاح نمط الحوكمة من خلال تعزيز الشفافية الإدارية، وديمقراطية الانتخابات، والتعددية الحزبية، ومدنية الدولة. والمقصود بمدنية الدولة هنا أن تمتنع الدولة عن التدخل في الشؤون الدينية، كما يجب أن يُمنع رجال الدين من التدخل في السياسة، حفاظًا على توازن الحياة العامة.
لقد ساهمت الأنظمة الديكتاتورية، بشكل مباشر، في إيصال الناس إلى درجة من الإحباط دفعتهم إلى الترحم على عهود الاستعمار، وهو أمر في غاية الخطورة. فقد رسّخ النظام السابق انتماءات ما قبل وطنية، من عشائرية وطائفية ومناطقية وحتى عائلية، على حساب الهوية الوطنية الجامعة. كما افتقدت الثورة، في بداياتها، إلى مرجعيات فكرية وتنظيرية واضحة ترسي لها أسسًا وطنية موحِّدة، مما جعلها عُرضة للتشظي والتوظيف الخارجي.
ماهي أفضل السيناريوهات الملائمة للامركزية الاقتصادية في سوريا؟
لطالما ادّعى النظام البائد أنه يتّبع نهجًا اشتراكيًا، وقد ساعده في ترسيخ هذا الادعاء عدد من المراقبين وحتى بعض منتقديه، إذ اعتبروا أن “الاشتراكية” كانت من أسوأ ما مارسه خلال سنوات حكمه. غير أن الحقيقة مختلفة تمامًا: فالاشتراكية لم تُطبّق يومًا في سوريا منذ تولي حافظ الأسد الحكم. ما حدث فعليًا كان نقيضًا للاشتراكية، إذ تم اعتماد نوع من “الليبرالية الانتقائية” التي خُصّ بها أصحاب الامتيازات وأفراد العائلة الحاكمة والدوائر الضيقة من المحسوبين على السلطة.
وللأمانة، ومن منطلق الابتعاد عن الأحكام الجاهزة، يبدو أن غالبية السوريين يميلون، من حيث المبدأ، إلى تبني نموذج ليبرالي في الاقتصاد، أكثر من ميلهم إلى الاشتراكية، التي غالبًا ما اقترنت في ذاكرتهم بالقمع والفشل الإداري. غير أن الليبرالية لا تعني إطلاق السوق دون ضوابط، ولا تبرر انسحاب الدولة من أدوارها الأساسية، خاصة في مجالات التعليم، والصحة، والخدمات العامة، والحماية الاجتماعية.
وفي المرحلة الأولى من إعادة الإعمار، أرى ـمن وجهة نظري أن من الأفضل الحفاظ على درجة من المركزية الاقتصادية، بما يضمن التوزيع العادل للدخل بين مختلف المناطق، مع مراعاة الاحتياجات الأساسية في كل منطقة بحسب خصوصياتها الجغرافية، والبيئية، والديموغرافية.
هل تنهي اللامركزية السياسية إمكانية نشوب صراعات عرقية وطائفية في سوريا؟
من الصعب القول إن اللامركزية السياسية ستنهي بشكل قاطع الصراعات العرقية والطائفية في سوريا. ربما تسهم في التخفيف منها، وربما تساعد على خلق مناخ من التفاهم والقبول المتبادل، لكنها ليست ضمانة بحد ذاتها.
كل شيء يعتمد على الطريقة التي تُطبَّق بها اللامركزية، والسياق السياسي الذي تُدرَج فيه. فإذا جاءت ضمن إطار وطني واضح، قائم على المساواة والمواطنة والعدالة، فقد تكون أداة فعّالة لتقليص التوترات. أما إذا طُبّقت بطريقة انتقائية أو على أسس فئوية، فقد تؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا، وربما تُعمّق الانقسامات بدل أن تعالجها.