مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، وما تبعها من انهيار تدريجي في بنية الدولة المركزية، برزت الحاجة إلى بدائل محلية لإدارة الشؤون العامة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام المخلوع. وقد لعبت المجالس المحلية والمبادرات الشعبية في إدلب ودير الزور دوراً محورياً في ملء هذا الفراغ، عبر تجارب متباينة بين النجاح والإخفاق.
ومنذ عام 2012، بدأت تتشكل النواة الأولى للمجالس المحلية في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، على يد نشطاء مدنيين سعوا لتنظيم جهود الإغاثة والتواصل مع المنظمات الإنسانية عبر الحدود التركية. ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه المبادرات إلى كيانات أكثر تنظيمًا بين عامي 2014 و2016، لتتولى تنفيذ مشاريع بنية تحتية مثل شبكات المياه، الأرصفة، وإنارة الطرق بالطاقة الشمسية.
في عام 2015، تولّى أحمد السلوم (51 عامًا) رئاسة المجلس المحلي في مدينة سراقب بإدلب، في ظل غياب تام للموارد والرواتب والمقومات الأساسية للعمل الإداري.
اقرأ أيضاً: الإدارة الذاتية والحكومة الانتقالية تبرمان تفاهماً في مجال الطاقة – 963+
إرادة وتطوع
يقول السلوم لـ”963+” واصفاً المرحلة التي اعتمدت بالكامل على مساهمات المجتمع المحلي: “كنا ندير مدينة كاملة بلا ميزانية، فقط بالإرادة والتطوع”، مشيراً إلى أن معظم العمل جرى على حساب وقتهم وجهدهم ومعداتهم الخاصة.
ويضيف أنه رغم الظروف الصعبة، نظّم المجلس حملات نظافة، وأصلح شبكات مياه متهالكة، وأدخل الإنارة الشمسية إلى عدد من الشوارع. “لم تكن الإنجازات كبيرة، لكنها كانت فارقة نفسياً للناس؛ إذ كانت إنارة الشارع بمثابة إعلان أن المدينة لا تزال حية”، حسب تعبيره.
ويتابع: “لم نعد نتحرك كهيئة مدنية مستقلة، بل كجهاز محاصر بين رغبات الناس وضغوط القوى المسيطرة”، لافتاً إلى أن التدخلات المسلحة بدأت تعرقل عمل المجلس وتفرض قيوداً على قراراته، إذ أُوقِف بعض المشاريع لعدم حصولها على “موافقة أمنية”.
ويوضح السلوم أن التجربة لم تفضِ إلى بناء مؤسسات قوية بالمعنى التقليدي، لكنها كشفت قدرة المجتمع على تنظيم نفسه في ظل غياب الدولة، معتبراً أن جوهر الدولة لا يكمن في المباني والإدارات، بل في الثقة المتبادلة بين الناس ومن يتولّى خدمتهم، وهي الثقة التي سعى المجلس للحفاظ عليها رغم التحديات، ما يراه مدعاة للفخر في تلك المرحلة.
وشهدت مدن كفرنبل وسراقب ومعرة النعمان آليات انتخابية أو توافقية لاختيار أعضاء هذه المجالس، قبل أن تهيمن الفصائل المسلحة تدريجياً على المشهد، ولا سيما بعد تأسيس “حكومة الإنقاذ” عام 2017، ما قيد استقلالية تلك المجالس. ورغم ذلك، لعبت مجموعات ثورية ونشطاء مدنيون أدوارًا رقابية للحفاظ على بعض مظاهر الحكم المحلي.
وفي مدينة كفرنبل جنوب محافظة إدلب، نجح المجلس المحلي في تنفيذ مشاريع لبناء المدارس، وحفر آبار ارتوازية، وإعادة تأهيل شبكات الصرف الصحي، وتنفيذ حملات نظافة وتشجير، بدعم من منظمات محلية ودولية.
وفي واحدة من أكثر مراحل الحرب السورية قسوة، حين كانت المدارس هدفاً متكرراً للقصف، قرّر مجلس كفرنبل المحلي إعادة فتح أبواب التعليم رغم المخاطر.
اقرأ أيضاً: الإدارة الذاتية تحدد سعر شراء محصول القمح للموسم الحالي – 963+
مدارس رغم القصف
تقول نور علوش (42 عاماً)، عضوة المجلس ومسؤولة ملف التعليم آنذاك لـ”963+”: “أعدنا فتح المدارس رغم القصف، لأن الأطفال كانوا بحاجة إلى بصيص من الأمل لإنقاذ مستقبلهم الدراسي”.
وتضيف أنه خلال عام 2016، أعاد المجلس تأهيل إحدى المدارس، لكنها قُصفت بعد أسابيع من افتتاحها، ورغم ذلك استمر الفريق في العمل مستعينًا بمعلمين محليين، حيث افتُتحت ثلاث مدارس مؤقتة داخل أبنية سكنية.
“كنا نعلم أن جودة التعليم متواضعة، لكننا كنا نحارب العزلة واليأس”، تقول علوش، مشيرة إلى حجم الإصرار على الصمود والبناء.
وتؤكد على أن الجهود لم تقتصر على إعادة فتح الصفوف، بل شملت أولويات اجتماعية أبرزها دعم الطالبات. “لاحظنا أن كثيرًا من العائلات بدأت تزويج بناتها مبكراً بسبب غياب المدارس، فكان التعليم بالنسبة لنا وسيلة لحماية مستقبل الفتيات، لا مجرد تلقين للمواد”.
إلى جانب ملف التعليم، شاركت علوش في تنفيذ مشاريع خدمية أخرى مثل إعادة تأهيل قنوات الصرف الصحي، وبرامج تشجير لتحسين المشهد العام، قائلة: “كل شجرة زرعناها، وكل متر من القناة رممناه، كان إعلانًا بأن الحياة مستمرة، رغم كل الظروف”.
أما في دير الزور، وبعد اندحار تنظيم “داعش”، وجدت المحافظة نفسها في مواجهة فراغ إداري وأمني حاد، دفع المجتمع المحلي إلى البحث عن بدائل سريعة لإدارة الشأن العام.
وفي ظل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أُعيدت هيكلة المجالس المحلية بالتنسيق مع “مجلس دير الزور العسكري” وقوى الأمن الداخلي (الأسايش)، في محاولة لتشكيل بنية حكم مؤقتة تعيد بعض النظام إلى الحياة اليومية.
ورغم انطلاقتها المتعثرة، تحوّلت هذه التجربة إلى اختبار حقيقي لقدرة الحكم المحلي على تحقيق التوازن بين السلطة المدنية الطامحة لتقديم الخدمات، والهيئات العسكرية التي تحتفظ بالمفاتيح الأمنية والعلاقات الخارجية.
وفي عام 2023، عُقد مؤتمر لدعم الأمن والاستقرار في دير الزور، بمشاركة ممثلين عن العشائر والمجلس المدني والقوات العسكرية، وكان هذا المؤتمر لحظة فارقة في إعادة بناء التشبيك المشترك بعد سنوات من التفكك.
اقرأ أيضاً: الإدارة الذاتية: اتفقنا مع الحكومة على إخراج العوائل السورية من مخيم الهول – 963+
خدمات رغم الإمكانيات المحدودة
يقول خالد عبد الرحمن الجاسم (45 عامًا)، عضو مجلس محلي سابق في ريف دير الزور، لـ”963+”، إن التجربة كانت بمثابة مختبر نادر للحوكمة، تتقاطع فيه إدارة الأزمات اليومية مع تحديات الشرعية وقيود الموارد وهيمنة السلاح.
ويضيف: “لم يكن الأمن كاملاً، لكنه كان كافياً لنبدأ مشروعاً أو نُصلح شبكة، أو نعيد فتح مستوصف. وجود مجلس عسكري ومدني في آنٍ واحد خلق توازناً هشّاً، لكنه أفضل من غياب الاثنين”.
ويشير إلى أن هذا التوازن، رغم هشاشته، أتاح للمجالس المحلية إعادة تشغيل عدد من المرافق الصحية، وصيانة شبكات المياه والصرف الصحي، وإطلاق مبادرات مجتمعية بالتعاون مع منظمات محلية ودولية. وبينما تولّى “مجلس دير الزور العسكري” ضبط الحدود ومتابعة القضايا الأمنية، سعت اللجان المدنية إلى خلق بيئة مستقرة لجذب الدعم وتوفير الخدمات الأساسية.
ورغم التباين بين الطرفين، خصوصاً في ظل تداخل الصلاحيات واختلاف الأولويات بين الأمن والخدمات، فقد أتاح هذا التعاون حدًّا أدنى من الاستقرار، بحسب الجاسم.
وما بين النجاح والتعثر، تظل هذه التجارب مفتوحة على التحسن، بشرط توافر إرادة سياسية مستقلة، وموارد عادلة، ومشاركة مجتمعية واسعة، ما من شأنه تحويل هذه النماذج من حلول مؤقتة إلى حجر أساس لسوريا المستقبل.