خاص – محي الدين ملك/ بيروت
فنانٌ مُدهش، استطاع بلغةٍ فنيةٍ هي غايةِ في الكثافةِ والوضوحِ والعُمْقِ أن يغرز كلماته في أيِّ حديثٍ أو حوارٍ، كما يغرز خطوطهُ في كلِّ لوحاتهِ وفي عناصرِ الطبيعةِ الصامتةِ. يسأل يوسف عبدلكي: “من قال إنها صامتة؟”… يستجوبها، ويهرب بها مُحتفلاً ناطِقاً بصمتها، لا يترددُ عن مواجهة السياسة والقضايا الاجتماعية، وهموم الناس والتَّعبير عنها… وعنهم.
ولعله يجيب: “لا أعرفُ ماذا أُسميها. أشياء؟ ليستْ أشياءً كلها. طبيعة صامتة؟ ليستْ صامتة. طبيعة ميتة؟ أين الموت في كلِّ هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة؟ ليست كذلك أيضاً… فحتى جدران الإسمنت المُسلَّح ليستْ ساكنة”.
إن سألته عن بداياته، فجوابه مقتضب: من القامشلي وحقولها البعيدة. كانت بداية تقاضت أثمانها من الأبيض العنيف والأسود الصارخ، لكن البراءة تنبسط على سطوح تنتفخ من شدة صمتها. رسامٌ يبحثُ في وردةٍ رماديةٍ عن وشوشاتها الخضراء في براريها العذراء، وعن عصفورٍ تنبعث أصداؤه من الفضاء الفسيح إلى جسده، والضوء يندلقُ على الحيطان، بإيقاعاتِ صرخةٍ صامتةٍ. والعيون التي تضحك أو تبكي – أحياناً – لا تكفُّ عن التأمل في البعيد.
وهذا تأملٌ حاول “963+” تتبُّعَ مساره في حوار استذكاري. كان معرضه الأخير في “البحرين” أصل السرد ووحي الحكاية:
من أين تريدنا أن نبدأ؟
بغض النظر عن أسئلة تطرأ في بالك، برأيي لا محل غير جديرٍ بالعرض، من أصغر قريةٍ في أفريقيا إلى أكبر عاصمةٍ في الأميركيتين، لأن أساس أي عمل فني، رسماً كان أم شعراً أم موسيقى، لا يكتمل إلا بـ “آخر” متلقٍ، ولهذا المتلقي الفضول – ولا أقول العطش، حتى لا أبالغ – والرغبة كي يُرى.
أتعلم أنني أقمتُ معارض كثيرة في مدن وبلدات عديدة، لا تقيم معارض حتى لفنَّانيها أنفسهم، مثل سلمية والرقة وحماة وحمص، وهذا الكلام ليس اليوم، إنما منذ 45 سنة تقريباً؟
هذا من حيث المبدأ. أما في ما يتعلق بالمعرض في البحرين، وللذاكرة حقُها، أذكرُ، منذ 22 سنة، اتصلتْ بي صاحبةُ صالة “الرِّواق” في البحرين، ونظمتْ لي معرضاً. أما اليوم، فقد فوجئت بمفاجئة كبيرة، كنتُ أعتقدُ أنني سأقيم معرضاً وانتهي، لكنني شاهدت أعداد المتابعين ومحبي الفن التشكيلي، واهتمامهم الكبير بالتعرُّف على تجارب الفنانين خارج البحرين، وكان هذا المعرض سبباً للعديد من الصداقات، أو لتكريس القديم منها.
للبحرين، كما لجنوب العراق، موقع رفيع في قلبي. برأيي، قامت فيها أول ثورة اشتراكية في التاريخ، هي ثورة القرامطة، ضد الدولة العباسية التي كافحتها بالعديد من الحملات المضادة، وما استطاعت القضاء عليها. فقبل 9 قرون من “كومونة باريس”، أو الثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1876 ويظنها بعض المثقفين اليساريين أول ثورة اشتراكية في العالم، أقام البحرينيون إجراءاتٍ اشتراكيةً. وربما هذا مسكوت عنه، لكنه يُشكِّل خزاناً عاطفياً لا يغيب عن ذهني أبداً.
ماذا عن رسم الزوارق؟
بالعودة إلى معرضي الذي أقمته قبل نحو شهرين، وبغض النظر عن اللوحات المعروضة فيه، وما فيه من مواصفات المعرض القديم، فقد لاحظت الاستجابة والاهتمام ومحبة أصدقاء من مشارب واهتمامات مختلفة، واحتفاء صاحب الغاليري محمد جواد بي… نلت محبةً كانت أكبر كثيراً مما أستحق.
ربما المتميز في هذه التجربة الأخيرة هو أنني بعد أيام من وجودي في البحرين، طلبت من جواد أن يأخذني إلى شاطئ البحر لأرسم زوارق الصيادين. وهذا ما حدث. قضيت هناك أياماً، ورسمت زوارق وصيادين. وهذه تفصيلة ملائمة للعودة إلى عام 1972، عندما ذهبت إلى بيروتَ، وتحديداً إلى بحرها، بجانب المنارة، ورسمتُ هناك زوارق وصيادين. أتذكَّرُ عندما نفدتْ أوراق الرسم، فاستعنتُ بأكياسٍ مصنوعة بالورق البني، حصلت عليها من دكانمجاور، ورسمتُ عليها.
أريد أن أقول إن تجربة رسم الزوارق في البحرين ذكَّرتني بتجربة رسم الزوارق في بيروت. ولدي إحساس بأن للزورق شكله الانسيابي الذي يوحي بالسفر والغربة، وبالرحلات لمشاهدة مدنٍ وبلدانٍ وعوالم أخرى، وربما أفكار وأشياء أخرى. لذلك، البُعْدُ – دعنا نسميه هكذا – أي الشكل البحت للزورق وللصيادين، لا ينفصل أبداً عن قدرتهما الإيحائية.
كيف كان وَقْعُ لوحاتك على المشاهد البحريني؟
إن توخّيتُ الموضوعية، فسأظهرُ مغروراً. في الحقيقة، لا علاقة لي بالغرور، بل أرى أن كل فنان يعمل ما يستطيع إليه سبيلاً، والزمن هو الخصم والحكم. لكن، بغض النظر عن الإجابة، أقول إنني في أيامي بالبحرين، كنت محاطاً بالمحبة.
دنيا اليوم عامرة بالمآسي.. أما زلت مؤمناً بالفن وجدواه؟
من منظور عقلاني، أعتقدُ أن قصة الأمل واليأس تحتاج دائماً إلى زمن طويل. بهذا المعنى، لا أقول لدي الأمل بالفن أو بالثقافة فقط، بل لدي إيمانٌ بمجتمعاتنا، كلها، على الرغم من هذه المرحلة السوداء وظلاميتها. أطلب من الجميع أن يقارنوا بلداننا ومواطنينا ومدننا وعواصمنا وثيابنا وعمارتنا اليوم بما كانت قبل 100 عام، وسنرى أننا قفزنا قفزاتٍ هائلةٍ إلى الأمام. قبل 100 عام، كان عدد المتعلمين أقل من قليل، وعددُ الأُميين أكبرُ كثيراً، وعددُ الناس الذين عاشوا في أوضاعٍ صحيةٍ سيئةٍ كانت أكبرَ من التَّوقع، وكان الغذاء أسوأ، وكذلك اللباس، وكلُّ شيء.
اليوم، على الرغم من كل ظلامية اللحظة الحاضرة، لا نُقارَن بما كنا عليه قبل 100 عام. نحن اليوم متقدمون عن قبل، ووعيُ الناس الذي أعتبرهُ مفتاحَ تقدُّمِ كلِّ مجتمع هو أرفع كثيراً من وعي الناس قبل 100 عام. بهذا المعنى، أقول ليس عندي إيمان بدور الفن والثقافة فحسب، بل عندي إيمان بدور المواطن والمجتمعات.
ألا تجدنا نعيش وعياً زائفاً؟
إطلاقاً. اليوم، وعلى الرغم من كل هذا الضخ الإعلامي، وما فيه من تضليل سياسي وتزييف اجتماعي وتلفيق طبقي، ستجدُ أن المواطِن يتمتع بهذا الوعي والإحساس تجاه وجوده وحقوقه وحرياته، وهي من المسائل الأساسية التي تلعب دورها في تقدُّم الحياة.
لنحاول أن نسحب قراءتك على تجربتك فنبحث عن علاقة قائمة بين عالم خارجي بقضاياه الاجتماعية والسياسية، وعالم داخلي مكوّن بعناصر تؤلف لوحتك. وسؤالي، هنا، عن الرمزية، بشكل عام، والعصفور كرمز، على وجه التحديد؟
أولاً، لا علاقة لي بالمدرسة الرمزية في أوروبا، وأجدني بعيد عن فكرة الرمزية، أيضاً. بمعنى، أن ترسم شيئاً وتقصد شيئاً آخر، كأن ترسم حمامة وتقصد السلام، أو ترسم السيف وتقصد الحرب، أو ترسم امرأة جليلة وتقصد الأمة… إلخ. وغالباً – وأؤكد على كلمة “غالباً” – أعمل على مفردات لها دلالات بحد ذاتها. مثال: أرسم سمكة فلا ترمز إلى شيء آخر، بل إلى سمكة مقتولة. وأرسم وردة لأنني أريد أن أرسم وردة. لكن، لهذه العناصر دلالات تلامس حساسيتنا، وبالتالي هي ليست رموزاً.
بهذا المعنى، حين أرسم عصفوراً وبجانبه سكين، فالدلالة واضحة: العصفور يشير إلى الرقة والجمال والحرية، والسكين مؤشر إلى العنف والقسوة والسطوة. الدلالات لا تُخفي نفسها.
أحياناً، تختلط العناصر التي تحمل دلالاتٍ مع العناصر التي تحمل رموزاً، وإن وضعت نفسي ضمن تيارٍ من التيارات الفنية، فأجدني أقرب إلى التيار التعبيري الواسع. فالعصب الأساسي في أعمالي هو العصب “التعبيري”. لكنه، في الوقت ذاته، يستند إلى عناصر من الواقع. من هنا، وإذا كان لا بدَّ من تصنيفي، فأقول إن أعمالي تعبيرية.
ما سبب انحيازك – شبه التام – إلى الأسود والأبيض؟
الفنانون قسمان: الملوِّنون الذين يشتغلون على صراعات الألوان الحارة والباردة، أداتهم الفرشاة و”اللمسة”، والرسامون الذين يصيغون أعمالهم بناء على صراعات الأبيض والأسود، وأداتهم “الخط”، بقلم الرصاص أو الفحم أو الحبر، إضافة إلى عامل آخر هو العامل النفسي للفنان.
في العادة، ينتمي الرسام إلى صنف العقلانيين، بينما المُلَوِّن فيُصنَّف في خانة العاطفيين، مع الأخذ في الحسبان أن لا حدّ قاطعاً بين المُلوِّن والرسام. يستطيع الأول أن يرسم موضوعات في منتهى التراجيديا بالألوان أو بالأبيض والأسود، ويستطيع الثاني أن يرسم موضوعات في منتهى الرقة بالألوان أو بالأبيض والأسود.
ليست الحكاية في “أداة”، بل هي حكاية فنان وخياراته وتذوقه وموقفه ورؤيته. بالنسبة إلي، ومنذ البداية، كان إحساسي أنني رسام.
لكن، ثمة من لا يدرك هذا الفارق التاريخي/الثقافي بين المُلَوِّن والرسام، وبالتالي، فهو لا يجد في لوحاتك إلا السوداوية والمستقبل المجهول!
نعم، أسمع هذا الكلام كثيراً. في الحقيقة، كان يمكنني أن أُعبِّر عن موضوعات التراجيديا والمأساة باللون أيضاً، بالأزرق السماوي مثلاً. لكن الحكاية هي في رؤية الفنان وتصوراته، ودور العمل الفني في حياته.
ذكاء اصطناعي يرسم لوحات بوسائط تناظرية مثل الألوان الزيتية أو المائية أو الفحم.. إلخ، وبأسلوب التيارات الفنية المعروفة. ما قولك؟
أعتقد أن العالم يعيش منذ نحو 200 سنة طفرة علمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. العمل على الذكاء الاصطناعي واحد من آخر إنجازات هذه الطفرة. ولا أشك في أن هذا الإنجاز سيتقدم بشكل كبير، عِلماً أن العقل الصناعي مُبرمج بعقل بشري، وعندما نصل إلى لحظة يُبرمج فيها العقل الصناعي نفسه بنفسه، ويؤلِّف مشاعر وأفكاراً ومواقف، نبدأ باستشعار الخطر الذي يهدد الوجود البشري.
هذا “الروبوت” الذي يرسم أعمالاً فنية بهذه الإمكانات المذهلة هو إنجاز استثنائي وخارق في تاريخ الإنسانية. لكن الفن، منذ بداياته، لم يكن خبرات ومهارات فحسب، بل فيه شيء من الذاتي والفردي والعاطفي، وهذا ما يفتقد إليه الذكاء الصناعي.
لذلك، لدي شكوك في تسمية مثل هذه الأعمال بالأعمال الفنية. يمكن أن تُسمّى بـ “الأعمال التقنية”، ففي الأعمال الفنية عاطفة إنسانية فردية غير موجودة في أعمال فنية يصنعها الذكاء الصناعي… حتى الآن طبعاً!
أي قراءة ممكنة للتشكيل العربي اليوم؟
عندي إحساس التشكيليين العرب الذين قضوا عقوداً طويلة يحاولون أن يقبضوا على اللوحة الغربية، لأن “لوحة الحامل” غير موجودة في تاريخنا. هناك الخط العربي، والزخرفة، والأيقونة، والمنمنمة، والرسوم الشعبية… وهذه فنون لا علاقة لها بـ “لوحة الحامل” التي هي من نتاج العصر البرجوازي والثورة الصناعية.
و”لوحة الحامل” تأتي بقياسات صغيرة، فيمكن أن تنتقل من مكان إلى آخر، من يد إلى يد، ما يعني أن العصر الرأسمالي جعلَ من اللوحة سلعة. هذه هي “لوحة الحامل”، من حيث الجوهر. وهي غير الأيقونة، فالأيقونة تُرسم وتُعلَّق في الكنائس، لا تُباع ولا تُشترى. بهذا المعنى، “لوحة الحامل” لم تكن موجودة في فنوننا.
عندما احتل الأوربيون بلدان العالم الثالث، صار فنانو هذه البلدان يكتشفون “لوحة الحامل” التي لا تعتمد على الألوان الزيتية، وترسم على قماش ولها إطار، وفيها مفاهيم فنية مختلفة عن مفاهيم العالم الثالث، بمعنى أن فيها “تشبيه” و”ظل ونور” و”منظور”.
يقول ابن خلدون إن المغلوب مولعٌ بالاقتداء بالغالب. حاول الفنانون العرب أن يقبضوا على “لوحة الحامل”، وهذا كلَّفنا قرابة خمسين سنة. بعدها، بدأ الفنان العربي يفكر في أمور أخرى لا علاقة لها بامتلاك “لوحة الحامل”، أي ما له علاقة بـ “الهوية”: أنحن مسلمون أم عرب أم مصريون… إلخ؟ بدأت أزمة الهوية بالظهور، فظهرت تيارات فنية للإجابة عن هذا السؤال، من قبيل تيار الحروفية.
أعتقد أننا، في العقود الثلاثة الأخير، انتقلنا من السيطرة على “لوحة الحامل” والشغف باللوحة التراثية أو الهوية المحلية، إلى شيء يشبه معاناة الفنان الغربي، بمعنى، كل فنان يقف أمام مصيرٍ فرديٍّ، وتجربةٍ فرديةٍ، وتصورات فردية، وأمام فشله أو نجاحه – الفردي، أمام رؤاه وعمقه أو سطحيته، وهو متروك أمام بحر الظلمات لا معين له إلا عقله الفردي ورؤيته الفردية وعناده الفردي.
بهذا المعنى، نحن أمام تراجع الأسئلة المتصلة بالهوية. أعتقد أن في كل جيل ثمة فنانون على درجة من الأهمية، ولا أعتقد أن الفنانين القدماء هم أفضل من الفنانين الجدد. اليوم، يوجد فنانون في سوريا ومصر والعراق ولبنان، وفي بلدان المغرب العربي، يملكون تجارب رائعة يجب التوقف أمامها باحترام كبير.
من هو؟
انتهى اللقاء مع يوسف عبدلكي… لكن الصمت واصل كلامه بطريقته الخاصة. فمن هو؟
وُلد عبدلكي في القامشلي في عام 1951، وتخرّج من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق في عام 1976. سجن سياسياً سنتين في أواخر سبعينيات القرن الماضي، فغادر سوريا إلى المنفى. في فرنسا، تخرّج من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس، ثم حمل الدكتوراه في الفنون الجميلة من جامعة باريس الثامنة. عاد إلى سوريا في عام 2005، فأقام معرضاً كبيراً، كان عنواناً لإيابه الفني بعد غياب. وفي عام 2015، اعتقل مجدداً خمسة أسابيع.
اللوحة عنده إيمائية وواقعية في آن، وتقنيته الفنية مختلفة: طباعة فنية يشبعها حفراً على النحاس، ورسم بالفحم على ورق عادي، وموضوعات مؤثرة مربوطة بحبال، تكثر فيها الجماجم والسكاكين والأسماك، وكل رموز الحرب.
من يبحث عن لوحاته، يجدها في مجموعات خاصة، وفي المتحف البريطاني، ومعهد العالَم العربي بباريس، ومتحف عمّان للفن الحديث، والمتحف الوطني في الكويت، وغيرها.