هل تستطيع التحكم في مجرى أمور حياتك؟ هل تعتقد أن الحياة بكل ما فيها تستحق أن تُعاش؟ هل تشعر بالقلق من مواجهة المشكلات حتى قبل أن تحدث؟ هل تعتقد أن تغيرات الحياة هي تهديد لك؟ هل تستطيع التخطيط بدقة لحياتك المستقبلية؟ هل ترى أن متاعب الحياة فرصاً للنمو والتطور أو مصدراً للإحباط؟ هي أسئلة جدلية كثيراً ما يتم طرحها للنقاش مع الأخرين لنعكس من خلالها قلق المستقبل الذي نعاني منه.
قلق المستقبل
يُعد القلق بشكل عام من أكثر المشكلات النفسية شيوعاً والتي تصاحب الإنسان طيلة فترة حياته، وتخبرنا العديد من الأدبيات المتعلقة بالقلق أنه مرض العصر، إذ يظهر القلق في المواقف التي يدركها الفرد على أنها مهدده له فيشعر بالضيق والانزعاج منها، وتتسبب له بإعاقة مواجهة أعباء الحياة ومسؤولياتها وتهدد صحته النفسية والجسدية.
أما قلق المستقبل هو حالة خاصة من حالة القلق العام، أو يمكن القول إنه أحد أنواع القلق، فمنذ أن طرح توفلر Toffelr مصطلح صدمة المستقبل عام 1970 أصبح قلق المستقبل أحد أنواع القلق الذي يطفو على السطح، والعصر الحالي يخلق توتراً كبيراً تبعاً للمطالب التي تُفرض كل يوم والجهود الكبيرة التي يبذلها الأفراد لاستيعاب هذه التغيرات ومواجهتها.
ويتشكل قلق المستقبل نتيجة لعدة عوامل منها الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة بالفرد، فكلما كانت هذه الظروف ضاغطة وغير مستقرة كلما زادت شدة المشاعر المتعلقة بقلق المستقبل، ومنها عوامل تتعلق بالفرد نفسه كالميل للتشاؤم والسوداوية، التناقض بإدراك الفرد لذاته فقد يضع أهدافاً وطموحات لنفسه لا تتناسب مع قدراته وإمكاناته الفعليه، وتجدر الإشارة إلى أن قلق المستقبل أكثر شيوعاً خلال المرحلة العمرية الممتدة بين 20 إلى 40 سنة أي مرحلة الشباب إذ يشغل التفكير بالمستقبل وتوقعاته حيزاً كبيراً من تفكير الفرد في هذه المرحلة العمرية.
ويمكن شرح مفهوم قلق المستقبل بأنه خبرة انفعالية غير سارة تُعبر عن تضخيم السلبيات ودحض الإيجابيات والخوف من التغييرات والتطورات المتتابعة في الحياة المتوقع حدوثها في المستقبل ويترافق هذا القلق مع تغليب التوقعات السلبية على التوقعات الإيجابية لكل ما يحمله المستقبل، وانخفاض الرضا والاطمئنان والخشية من المجهول، وترقب وقوع الأذى، وفقدان التركيز، وهذا ما يسبب حالة من التشاؤم قد تصل إلى درجة الاضطراب النفسي، علماً أن درجة معتدلة من قلق المستقبل تشكل حافزاً للفرد نحو الإنجاز وتطوير الإمكانيات لكن كلما كانت درجة القلق كبيرة كلما أصبح الفرد أكثر استعداداً للمعاناة من اضطراب نفسي.
اقرأ أيضاً: الأولى من نوعها.. نجاح عملية زراعة قرنية في محافظة إدلب – 963+
استطلاع رأي
سلمى محمد مثلاً خريجة صيدلة من جامعة دمشق وتبلغ من العمر 24 عاماً عندما قمت بسؤالها عن توقعاتها حول مستقبلها، قالت لصحيفة “963+”: لا تسمح لي إمكانياتي المادية البدء بمشروعي الخاص، أعمل كمندوب علمي لدى شركة أدوية والراتب لا يغطي مستلزماتي وآجار منزلي، المستقبل يُبنى على الواقع فكيف سيكون المستقبل إذا كان الواقع مرير.
عامر موظف حكومي يبلغ من العمر 40 عاماً عند سؤاله عن المستقبل، قال لا أرى أي أفق لحياة جيدة في بلد أنهكته الحرب حتى الآن لا أملك أي مقومات لبناء أسرة.
سمير أب لطفلين ويبلغ من العمر 38 عاماً عند سؤاله عن مصادر قلقه قال أخشى ألا أتمكن من تقديم الدعم اللازم لأبنائي لمواصلة تعليمهما، كثيراً ما أشعر بالذنب، أريد أن أكون أفضل أب لأبنائي لكن لا أستطيع.
نظريات نفسية فسرت قلق المستقبل
ترى نظرية التحليل النفسي أن القلق يشير إلى توقع الخطر، وصدمة الميلاد هي الخطر الأول الذي يواجهه الفرد في حياته، وحالات القلق اللاحقة ترتبط بتقدير الفرد لمصادر قوته مقارنة بمقدار الخطر، وهناك ثلاثة عناصر أساسية للقلق هي: الشعور بالعجز والشعور بالعداوة والشعور بالعزلة لكن إذا شعر الفرد بالانتماء للمجتمع الذي يتواجد ضمنه فإن هذا يساعده في التغلب على إحساسه بالنقص والعجز والقلق من المستقبل.
وفسرت النظرية السلوكية قلق المستقبل على أنه سلوك متعلم من البيئة التي يعيش وسطها الفرد، فقد تكون البيئة محفزة للقلق والتوتر، وقد تكون البيئة داعمة لتحقيق غايات الفرد، أما النظرية المعرفية ترى أن العامل الأهم والأكثر تأثيراً في نشوء قلق المستقبل واستمراره هو محتوى التفكير وردود الأفعال والسلوكيات الناتجة في ضوء هذا المحتوى، فالحديث السلبي مع الذات مثل (أنا شخص فاشل أنا شخص غير محبوب، لا يمكنني النجاح في هذه المهمة، أنا شخص غير كفوء، أنا لا أستحق الأفضل، لا فائدة من محاولاتي) والأفكار اللاعقلانية التي قد يتبناها الفرد مثل الأفكار التالية:( أنه يجب أن يكون الفرد على درجة كبيرة من الكفاية والمنافسة والإنجاز ليكون ذا أهمية وقيمة – أنه لمصيبة كبيرة أن تسير الأمور على عكس ما يريد الفرد – من الأسهل تجنب الصعوبات بدلاً من مواجهتها، يجب أن يكون هناك حل كامل وصحيح لكل مشكلة وإلا ستكون النتائج خطيرة).
آثار قلق المستقبل
أما عن الآثار السلبية لقلق المستقبل على حياة الشباب فإن قلق المستقبل إذا تجاوز الحدود الطبيعية يمكن أن يترك الكثير من الآثار السلبية على حياة الأفراد وجودة حياتهم، فعلى الصعيد النفسي إن التركيز المستمر على المخاطر والتهديدات المحتملة يؤدي إلى الإحساس بالعجز وفقدان السيطرة على مختلف جوانب الحياة، فتظهر أزمة الهوية وتُطرح تساؤلات كثيرة حول الذات مثل (من أنا؟ – ما الفائدة من وجودي إذا لم أستطع التحكم بمستقبلي؟ أنا الآن بعمر الشباب وأعجز عن تأمين أدنى متطلبات المعيشة لي، متى سأتزوج؟ كيف لي أن أنجب أطفالاً في ظل هذه الظروف القاسية؟) وإلى ما هنالك من الأسئلة التي تتعلق بقدرة الفرد وهويته، ومع مرور الزمن يتحول القلق من حالة مؤقتة عارضة إلى سمة دائمة في الشخصية، فتنخفض الثقة بالنفس ويزداد الشعور بالذنب، ويفقد الحاضر بهجته ومتعته بسبب الهواجس المستمرة، وعلى الصعيد الجسدي يسبب قلق المستقبل اضطرابات النوم متل الأرق بسبب تكرار الأفكار المقلقة، الصداع، آلام العضلات، القولون العصبي، خفقان القلب، زيادة هرمون التوتر (الكورتزول)، زيادة الاستعداد والقابلية للإصابة بأمراض القلب والسكري.
وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية يسهم قلق المستقبل في زيادة نسبة فشل العلاقات الإنسانية كالزواج والصداقة بسبب الانشغال المستمر بآراء الآخرين وتوقعاتهم، والتركيز فقط على احتياجاتهم في العلاقة دون الانتباه لحاجات الفرد نفسه، ولأن الذات الإنسانية تتسم بالمرونة والقابلية للنمو والتطور نحو الأفضل هناك مجموعة من التقنيات المثبت فاعليتها في العلاج النفسي بالتخفيف من قلق المستقبل.
اقرأ أيضاً: أي دواء يستعين به السوري على أمراضه؟ – 963+
تقنيات مساعدة للتخفيف من قلق المستقبل
الاعتراف بالمشاعر وتقبلها كجزء أساسي من الحياة، فتقبل مشاعر القلق والتوتر يساعد الفرد في تجاوزها- كتابة الأفكار المقلقة حول المستقبل في دفتر يومي ومناقشة كل فكرة بشكل منطقي- التركيز على الحاضر واللحظة الراهنة وممارسة اليقظة العقلية، فتخصيص( 10-15) دقيقة للتأمل والتنفس العميق في اليوم يساعد على تحسين التركيز- ممارسة الامتنان من خلال كتابة الأشياء الممتن لها خلال اليوم، هذا يذكرك بالنقاط الإيجابية في حياتك ويقلل التركيز على مصادر القلق- تخطيط الأهداف بطريقة ذكيه حيث أن الأهداف الموضوعة وفق نموذح سمارت Smart هي أهداف أكثر قابلية للتحقق. أيضاً إن طلب المساعدة والاستشارة النفسية من المختصين ثقافة يجب تعميقها وتعميمها، فالاستشارة النفسية المهنية تساعد الفرد على فهم ذاته أكثر، والتعبير عن مشاعره ضمن بيئة آمنه متفهمة.
أخيراً إن قلق المستقبل لا يشكل مشكلة أو عائق أمام الفرد إذا كان دافعاً للاستعداد والسعي نحو الأهداف وتطوير الذات والإمكانيات والقدرات، ولكن عندما يتحول إلى دائرة مغلقة من التوقعات الكارثية فإنه يهدد الاستقرار والتوازن النفسي ويعيق إمكانات النمو ومفتاح الحل هو تقبل عدم اليقين المطلق كجزء طبيعي في صيرورة الحياة، وطلب المساعدة النفسية عند الحاجة.
نشرت هذه المادة في العدد الحادي عشر من صحيفة “963+” الأسبوعية والصادرة يوم الجمعة 16 أيار /مايو 2025.
لتحميل كامل العدد الحادي عشر من الصحيفة النقر هنا: الصحيفة – 963+
