هناك ظواهر وجرائم كثيرة تحدث في المجتمعات العربية أو التجمعات العربية في دول العالم، تظهر كمية الأمراض التي كرستها فينا مجتمعاتنا الأولى، أو المنظومة الجمعية المتوارثة التي تحكمت بكل سلوكياتنا وتصرفاتنا دون أن نلقي بالاً إلى أثرها السلبي على حياتنا اليومية وكيف تترك لنا الحبل لنتمسك به ويدلنا إلى الطريق الذي مهدته لنا تلك المنظومة كلما قررنا النفاد بجلدنا ومحاولتنا الشفاء والنجاة من إرث الأمراض المجتمعية الكثيرة والتي يبقى معظمها مسكوتا عنه في دواخلنا، نرفض رؤيته أو الاعتراف به، لكنه يحدد مسارات حياتنا لاحقا أينما كنا، ويتحكم بسلوكياتنا حتي نبدأ بالتخبط كلما سعينا للفكاك منه، وهنا نصطدم باضطرابات نفسية نكتشفها في دواخلنا وتظهر علي شكل علاقات متوترة وتكاد أن تكون مرضية يكون مركزها العلاقات مع الدائرة القريبة، العائلة والشركاء ثم الأصدقاء وباقي المعارف. والذكور هم الأكثر إصابة بها كونهم موضوعين في أدوار السلطة التي تتناسب مع العقلية الدينية التي تربى عليها الذكر، لكن نحن النساء لم ننج من هذه الأمراض التي تظهر في طريقة تربيتنا لأبنائنا والتناقض في تربيتنا لهم بين الذكور والاناث.
نحن إذن نرث أمراض مجتمعاتنا، نرثها بكل قوتها فينا، وأغلبنا لا ينتبه لذلك، وإذا انتبه فإنه لا يكترث، بل سيسعى لنقل ما ورثه إلى أبنائه وبناته، إلى الأجيال الجديدة، كما لو أنه بذلك يحاول حماية ذلك الإرث عبر نقله من جيل إلى جيل، نوعا من التمسك بالهوية الأولى التي يعرفها أو التي يثق بها في الحقيقة، بعد أن فقدت هوية المواطنة كل قيمتها نتيجة عقود الاستبداد والفساد والاقصاء والتهميش والقمع والخوف حتي باتت مجرد شعار مفرغ تماما من معناه وتستخدمه الجهات المختصة في سياساتها الميكافيلية في الداخل والخارج، للمزيد من استخدام أفراد المجتمع واستثمارهم تماما في الألعاب السياسية للجهات المختصة التي ليست سوى الأنظمة بحد ذاتها.
لكن المنظومة السياسية هذه تربي منظومات صغيرة تشبهها، تمنحها بعضا من سلطتها وتبيح لها أن تمارس القمع المجتمعي دون التعرض للمساءلة، ذلك أنها هي السلطة البديلة التي تستخدمها الأنظمة لإبقاء المجتمع كله تحت السيطرة. هذه السلطة هي سلطة الذكر أو السلطة الأبوية البطرياركية التي تأخذ مشروعيتها لا من النظام الحاكم فقط بل من القوانين والتشريعات الدينية التي ومنذ قرون تم تحريم التعرض لها أو المساس بها بذريعة قدسيتها وشرعيتها الدينية والإلهية، حتى باتت من المسلمات المجتمعية التي تنتقل من جيل إلي جيل كما لو أن جيلا يتسلمها عن آخر وقد يضيف إليها من الجديد الذي يتفتق عن ذهن نصابي الدين المؤتمرين بأمر مراكز الأمن والاستخبارات في هذه الدولة أو تلك. ذلك أنه بدا معروفا أن كل مشعوذي الدين ممن يطلق عليهم اسم (علماء) أو من الدعاة الجدد والقدماء نجوم الفضائيات سابقا ونجوم السوشال ميديا حاليا هم خريجوا معامل الأجهزة الأمنية التي تقدم لهم الدعم الكامل المادي واللوجستي.
فلا أحد يمكنه السيطرة على هذه المجتمعات بحيث تبقى مشغولة بالتوافه تحت اسم (الدين والتدين والفتاوى وحماية القيم الدينية والمجتمعية والأسرية) فلا تكترث لكل ما تقوم به الأنظمة من تدمير وتخريب ممنهج للتعليم وللقضاء وللصحة ولأساسيات الحياة ولحق البشر في العيش الكريم وفي العدالة والمواطنة والمساواة، ذلك أن هذا كله (تدبير واختبار من رب العالمين). هكذا تعيش الأجيال الجديدة في نفس عبادة الماضي بينما تخرج حياة الآخرين في العوالم الأخرى المتقدمة من كل العباءات على اختلافها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والسلطوية والعائلية وحتى الجنسية، في أكثر موجات الحريات الفردية عير التاريخ وضوحاً وعلنية، بحيث بات معها حتى المتخف من أحمال الإرث المجتمعي عاجزاً عن تصديق ما يحدث في العالم من نوازع جنسانية وانقلابات في مفهوم الجنس والجسد وحرية اختيار الجندر أو التصرف بالجسد بما يخالف كل التعاليم الدينية.
بينما ترى أجيالنا المتمسكة بالعبادات القديمة كل هذا عبر حداثة تقنية لم نساهم نحن في تطورها ولا علي أي صعيد بل نحن مجرد مستهلكين لها، نستخدمها وينكشف أمامنا هول الحريات الذي يحدث في ذلك العالم فنزداد اضطرابا ونزداد تمسكا بما نحن فيه ونزداد شتما للحرية وللعلمانية وللديموقراطية التي تنتج هذه الإباحيات و”الشذوذ” المتمرد علي الفطرة الإنسانية التي كرسها الرب في مخلوقاته، كما يتم تداوله في الوقت الراهن.
ما نقرأه عن العنف المجتمعي حالياً وما نسمعه عن جرائم غريبة تحدث في مجتمعاتنا أو في التجمعات العربية في ادول أوروبا، وما تطالعنا به وسائل التواصل من داعشية منتشرة ومخيفة لدي شرائح واسعة جدا من العالم العربي مع أي صورة أو حدث يقرر هؤلاء إنه خارج عن قيمنا المجتمعية والأسرية، كصور الممثلات في ثيابهن العادية التي تلبس على السواحل أو صور الشباب والصبايا يرقصون فرحا بنتيجة أو تخرج، أو حديث شخصية عامة عن موافقتها على المساكنة أو المثلية، هذا ليس فقط نتيجة الأزمات المعيشية وفقدان الأمل بالمستقبل الذي بات هو سمة شديدة الوضوح لمجتمعاتنا، بل أيضا نتيجة الفجوة التي تشعر بها الأجيال العربية بين واقعها وبين ما وصل إليه العالم، هذا التناقض المهول بين حالها وحال أمثالها في العالم المتقدم يزيدها تمسكا بما هي فيه ويزيدها تعصبا له، ليس لاقتناعها به بل لخوفها من التغيير الذي قد يصيبها ذات يوم، فينسف كل البديهيات والثوابت التي تراكمت في عقلها الباطن الجمعي والفردي، ولا شيء يثير الخوف أكثر من نسف الثوابت وهدمها وكشف الحقيقة التي تقف خلفها.
الحقيقة التي يتم الاشتغال على أنها هي الوحيدة والمطلقة منذ آلاف السنين، الخوف هذا سوف ينمي الغضب والغضب يظهر الجانب الأعنف لدى البشر، والعنف يظهر من الوقي نحو الطرف الأضعف، والنساء في مجتمعاتنا هن الطرف الأضعف خصوصا وأن شرائج كثيرة ا(ذكورا وإناثا) ترى أن الذكر البطريركي يملك سلطة شرعية للحكم على نسائه القريبات، كما زن الدين قد أعطاه قوامة عليهن، والقوامة تعني السلطة والتحكم والاستعلاء الذي قد يصل إلى الحرمان من الحياة تحت مسميات عديدة تنسب دائما للشرف، لكن هذا الشرف ليس سوى ذريعة لزفر الغضب الناتج عن الإحساس بالاضطراب النفسي الناتج بدوره عن التناقض بين شكل الحياة الحديث الذي تراه الأجيال العربية كل يوم عبر العالم الافتراضي أو الواقعي للمقيمين في دول أوروبا والعاجزين تماما عن الاندماج في الثقافات الجديدة، وبين واقع حال هذه الأجيال العربية التي تدرك أنها مقصية عن التطور السريع للحياة وأنها لن تتمكن يوما من الدخول في حداثة العالم، فتزداد أمراضها المجتمعية واضطرابات أفرادها النفسية، وتزداد المجتمعات تخلفا وارتدادا وتقوقعا ورفضا للاختلاف وعنفا تجاه المختلفين، والمختلفين هنا هم من يفكرون خارج الصندوق المجتمعي السائد، سواء اجتماعياً أو دينياً أو قيمياً. تماماً مثل عنف الأنظمة تجاه المختلفين معها سياسياً.
كما أسلفنا سابقا تكون النساء عادة هن الطوف الأضعف المتعرض للعنف، لهذا معظم الجرائم ترتب ضدهن تحت مسميات مختلفة، لكن الذكور الذين يرتكبون تلك الجرائم هم أبناء أمهات لفرط ما تعرضن للظلم أصبن بمتلازمة استوكهولم. فبتن هن اللواتي يربين أبناءهن الذكور على أنهم النسق الأول ويحق لهم فعل ما يريدون والاستعلاء على كل النساء من دائرتهم ومن خارجها. تدافع هاته الأمهات عن أبنها المتحرش زو المعتدي الجنسي وتتههم ضحيته بأنها السبب لأنها لا ترتدي ما اعتادت هي علي ارتدائه مثلا؛ وتدافع هاته الأمهات عن ابنها القاتل لزوجته أو شقيقته أو جارته أو زميلته وتتهم الضحية بأنها استفزت اشرف ابنها. تجد هذه الأمهات أعذارا دائمة للاستعلاء العنفي الذي يمارسه ابنها الذكر ضد النساء التي تنتمي هي لهن وتعرضت لنفس الاستعلاء العنفي في حياتها لكنها بدلاً من أن تنتبه وتربي ابنها كفرد يتمتع بصحة نفسية وسلوك سوي فهي تزايد في إيهامه بقيمته كذكر وكسلطة وكقوة تعطيها له الشريعة وتكون رديفة لسلطة النظام الحاكم.
هذا الاضطراب النفسي الجمعي في بلادنا مؤسس له منذ عقود طويلة جداً، وبطرق ممنهجة ومدروسة، ولن ينتهي خلال أعوام قادمة قليلة، ربما تنجو منه الأجيال العربية التي تعيش طفولتها الآن في المجتمعات الأوروبية لو تمكنت من الخروج عن تقاليد العائلة، وهو ما لم تقدر عليه الهجرات القديمة للعرب إلى أوروبا التي يعيش أصحابها في تجمعات خاصة بهم يتناقلون نفس السلوك والعادات والتربية يساهم في ذلك السياسات الفاشلة للحكومات الغربية في دمج المهاجرين مع المجتمع.
أما المجتمعات العربية فهي سوف تزداد عنفا وأمراضا في مسيرة تمسكها بهوياتها الصغيرة وبثوابتها القديمة خوفا من التغيير الذي سيطالها يوما ما قد لا يكون قريبا لكنه حتما لن يكون بعيداً جداً ذلك أن الخطوات التي يسير بها العالم نحو التطور والتفرد مهولة السرعة ومالم تبدأ الأجيال العربية الجديدة بالخروج من كل العباءات التي تجعلها مضطربة ومنفصلة فسوف تتحول مع الوقت بالنسبة إلى باقي العالم إلي شخصيات تشبه شخصيات مسلسلات البيئة الشامية أو المسلسلات الدينية، لكن الفرق أن الكادر والنص حقيقي ويحدث علي أرض الواقع.