شهدت قرى دير الزور في شرقي سوريا تجدد الاشتباكات عبر الفرات بين قوات سوريا الديموقراطية (قسد) من جهة وقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية والمحلية من جهة أخرى، وذلك بعد أقل من عام من هزيمة ما يسمى “قوات العشائر” التي دعمت هجماتها على قسد كل من تركيا والمعارضة السورية، قبل التجائها إلى مناطق سيطرة قوات النظام السوري. كما أن حدة هذه الاشتباكات تصاعدت إلى حد تورط النظام السوري بشكل مباشر في ارتكاب مجزرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة قسد عبر قصف مدفعيته لقريتي الدحلة وجديدة البكارة، والتي قابلتها غارة لقسد على الضفة المقابلة من الفرات أسفرت عن عشرات القتلى في صفوف قوات النظام السوري انتقاماً للمجزرة.
تتزامن هذه الاشتباكات، من جهة، مع ارتفاع وتيرة جهود التطبيع المحتمل في العلاقات بين دمشق وأنقرة برعاية روسية. ورغم أن شروط الوصول إلى اتفاق بينهما تبدو بعيدة المنال حالياً، خاصة بعد تجديد وزير الدفاع التركي التأكيد على عدم نية بلاده الانسحاب من سوريا، إلا أن عدم حصول الاتفاق لا يستبعد بالمقابل احتمال نضج “تفاهم” بينهما (أو الإيحاء بوجوده على الأقل) لفتح ثلاث جبهات حرب على قوات سوريا الديموقراطية من شمال وغرب وجنوب مناطق سيطرتها بمعية ميليشيات المعارضة السورية. إذ تراهن كل من أنقرة وموسكو وطهران، والقوى التي يدعمونها في سوريا، على الانسحاب الأميركي من شرقي الفرات حال وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، وهو ما يعني انقضاضاً سهلاً على مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية التي يشكل وجود القوات الأمريكية فيها عامل ردع كاف لاستبعاد احتمالات الحرب الشاملة. من هذا المنطلق، قد يكون حجم مشاركة النظام السوري غير المعتاد في شن الهجمات على قوات سوريا الديمقراطية (وإن كانت معظم التقديرات ترجح اقتصار هذه المشاركة على الجناح الإيراني من النظام) تدريباً على هجمات أكبر بعد الانتخابات الأميركية، ونوعاً من أنواع تأكيد التزامها بالاتفاق مع تركيا. وبكلمات أخرى: تبدو مجزرة الدحلة وجديدة البكارة “عربوناً” لترسيخ التفاهم بين دمشق وأنقرة.
كذلك، والأهم، أن هذه الاشتباكات تأتي بعد اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية أثناء زيارته إلى طهران. وكما جرت العادة، فإن هذه الاشتباكات تساعد الأخيرة على التنفيس عن غضبها، وقلة حيلتها، تجاه العملية الإسرائيلية الموجعة والمهينة معاً. إلا أنها في الوقت نفسه تخدم النظام السوري وتعطيه فرصة لإثبات ولائه لمحور المقاومة وهو المتهم بالابتعاد عنه إلى درجة أن زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، لم يأت على ذكر سوريا في سياق سرده لساحات المقاومة ضد إسرائيل ضمن خطابه الأخير مطلع الشهر الجاري. وبالنظر إلى التضحيات التي قدمها حزب الله والإيرانيون من دماء أبرز قياداتهم في صراعهم مع إسرائيل، فإن النظام السوري، الذي اعتاش على هذا الصراع لمدة نصف قرن دون أن يدخله فعلياً أو يُغتالَ له قيادي ما، يرى في اشتباكات دير الزور فرصة ذهبية لاسترضاء الإيرانيين بدماء بعض القرويين المسالمين طالما أنها ستضمن له استمرار “تطفله” على محور المقاومة.
الهدف المعلن للسلوكيات الإيرانية (والسورية بالتبعية) التي تقوم، مع كل ضربة إسرائيلية، بالهجوم على قسد وقواعد التحالف الدولي، وتحريض الميليشيات المحلية باسم عشائر دير الزور للهجوم على قرى الضفة الشرقية للفرات، هو محاولة إخراج الأميركيين من سوريا. ورغم قناعة قسد بعبثية هذه السلوكيات، إلا أن الإصرار الإيراني عليها، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح قسد من الوجود الأميركي، يهدد باستعداء هذه القوة التي بقيت حتى الآن في هدنة غير معلنة مع الطرفين مع ضبط كبير للنفس ضد استفزازاتهما المستمرة منذ أعوام، وهو ما قد لا يستمر بهذا الشكل مستقبلاً، خاصة حال عدم وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، على ما تشي به الغارة التي شنتها قسد على منطقة البوليل رداً على مجزرة الدحلة وقتلها عدداً من عناصر قوات النظام السوري في الاشتباكات.
تبدو روسيا التي لا تحتاج، مثل إيران، إلى رد الاعتبار، أكثر عقلانية في تعاملها مع هذه القضية، خاصة بعد التشديد الأمني الذي فرضته قسد على قوات النظام في مدينتي القامشلي والحسكة. وما إرسال موسكو قائد قواتها في سوريا للقاء قائد قسد، مظلوم عبدي، إلا محاولة لإبعاد النظام السوري عن التورط في الهستيريا الإيرانية في دير الزور. ومع التغطية الجوية التي يتوقع من التحالف الدولي تأمينها، إضافة إلى وجود دعوات داخل قسد بتحرير الضفة الغربية لنهر الفرات من سيطرة إيران والنظام السوري، لا بد أن تضع طهران نصب عينيها احتمال أن تنقلب الطاولة عليها، وأن تتحول مناوشاتها الدموية إلى حرب قد تجد إيران نفسها فيها وحيدة فجأة، بانتظار أن يهديها النظام، شريكها المقاوم، مجزرة جديدة بحق قرويين لا حول لهم من مناطق أخرى من سوريا.