خاص – ليدا أبو زيدان/ دمشق
ثمة صورة جميلة لامرأة يتوقف عندها الجميع، ينبغي أن تمتلك شرط الجاذبية الأهم: تحقيقها معايير الأنوثة. وهذه المعايير ليست طبيعية، فالجمال ليس صافياً نقياً حقيقياً، إنما هو مجموعة من الصفات على المرأة امتلاكها “لتكون جميلة”.
صارت قائمة هذه الصفات واضحة، تتطور يومياً، وتستحوذ على العالمين الواقعي والافتراضي. إنها صورة تعمل منظومة متكاملة من أصحاب العلامات التجارية والمسوقين على تشكيلها ورسمها، لتحويل الجسد إلى شيء استهلاكي، تسعى الفتيات إلى امتلاكه.
صارت أغلبية النساء نجمات في صورهنّ، ومن لا يمتلكن الجمال يكتسبنه بأي وسيلة “مهما كلف الأمر”. وتزداد أزمة الهوية الجمالية حدةً بسبب التواصل الاجتماعي، فهذا الموضوع لم يعد صورة تهيمن على عقولنا بل أصبح وسيلة للربح أيضاً.
السؤال المهم اليوم: هل علينا إعادة النظر في مفهوم الجمال؟ وهل صارت الصورة الجسمانية للمرأة أداةً للاستهلاك؟
وجه واحد بآلاف النسخ
عيون مشدودة. أنف مستقيم صغير. شفتان كبيرتان. تفاصيل الجسم بارزة. هكذا صارت النساء اليوم، صوراً متكررة في أماكن مختلفة بأعمار مختلفة. وربما يصل بنا الأمر إلى أن نخلط بينهن مع تزايد صعوبة العثور الفوارق السبعة”، وكأن النساء جميعاً متحدرات من النطفة نفسها… فلا فرادة ولا تميز.
جنى ثلاثينية تحدق في الصور المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي، وتقول: “أشعر أنني ينقصني الكثير”. تبدأ بمقارنة صورتها بصورهن، وتسأل نفسها: “ما الذي ينقصني لأكون مثلهن؟ هذا السؤال يشعرني بالغيرة إلى درجة أنني أبدأ بتقليب صوري لأرى فيّ شيئاً يقنعني، ثم يصبح الأمر هاجساً، فأتخيل لو كنت مثلهن، كيف يمكن حياتي أن تكون؟”.
البروز سمة أساسية لهذا النمط الجمالي، وتساعد الصور الفتيات و”الفلاتر” المستخدمة في توضيح هذا البروز. وتشكل هذه السمة التي أصبحت مقياساً للجمال حالة من “جذب الآخر” تعبّر به الرغبة عن نفسها. تقول جنى لـ”963+”: “ليست المشكلة إن كان هذا الشكل جميلاً، إنما المشكلة تكمن في أن ترى في العالمين الواقعي والافتراضي مئات الفتيات اللواتي يملكن الصفات نفسها، فيتشابهن بشكل لا يلغي تميز اي واحد منهن فحسب، إنما يوحي لنا أيضاً بأن الجانب النفسي لهذه الفتيات أصبح مغيباً”.
من افتراضي إلى حقيقي
تتقلص المسافة بين الافتراضي والواقعي، فيمكن رؤية وجوه تبتكرها مباضع جراحي التجميل في كل مكان في مدينة دمشق، فيما تكتفي الفتيات بـ”فلتر” افتراضي يغير صورهن من دون تغيير جذري وحقيقي فيقتربن قليلاً من “نمطي” الجمال الدارج. تقول لمياء وهي طالبة جامعية في كلية الهندسة المعمارية في دمشق لـ”963+”: “ما يحدث هو إخضاع لا شعوري للنساء، كي يتماهين مع صورة لا تشبههن، فيرفضن أنفسهن”. وهذا إخضاع تحركه رؤوس أموال طائلة تبتكر في كل يوم منتجاً جديداً أو أداةً جديدة لتحقيقه، “وما عليك إلا امتلاك المال ونسخة من صورة إحداهن، تريدين أن تشبهيها”.
التواصل الاجتماعي أداة فاعلة في ترسيخ هذه الصورة النمطية للجمال، “وهذا لا يفترق كثيراً عن الترويج لمعلومة مغلوطة أو ملفقة، فهل يكون هذا الجمال المصطنع إلا تلفيقاً”؟”، كما تسأل لمياء. لا يمكن متابعة هذه المنصات من دون المرور بعشرات المقاطع المصورة عن الجمال والموضة وعن فتيات يمتلكن مقومات هذا الجمال ويتمتعن بكل ما تنتجه هذه الموضة.
تقول لمياء بقليل من الخجل: “أرغب في أن أغير شكل أنفي وشفتي قبل الجامعة. لست راضية عن نفسي، وأرغب في أن أكون كما أريد”.
لكل رغبة ثمن
من الفتيات من يمنعهن صغر سنهن من الخضوع لعمليات تجميل، فيلجأن إلى إجراءات تجميلية “ابتدائية” بحسب لمياء، من “البوتوكس” و”الفيلر” وغيرهما. وهذه الحقن هي الأوسع انتشاراً، بحسب الدكتور قيس الحجلي، المتخصص بالجراحة التجميلية، الذي يقدر بأن نحو 50 في المئة من النساء في دمشق يلجأن إلى إجراءات تجميلية، “تتدرج بدءاً من الأدوية، ثم تأتي هذه الحقن في مرتبة أعلى، تليها العمليات الجراحية من تجميل الأنف والجفنين ونحت الجسم وشد الوجه وغيرها”.
تقول موظفة في أحد مراكز التجميل في دمشق إن ما تطلبه الفتيات والنساء من تغيير تجميلي “متوفر وفي متناول الجميع”، خصوصاً البوتوكس والفيلر. وتضيف لـ”963+”: “تكلفة إبرة البوتوكس بين 20 و30 دولاراً بحسب النوع، وإبرة الفيلر الكوري 20 دولاراً، والفيلر السويسري 25 دولاراً تقريباً، وإبرة النضارة 15 دولاراً، الميزو للوجه أو الشعر 7 دولارات”.
وعند التوغل في العمليات الأخرى، تبدأ الأرقام في التغير. وبحسب الموظفة نفسها، تبلغ تكلفة عملية قص الجفن العلوي 200 دولار، وشد الجزء العلوي من الوجه 270 دولاراً، وتصل تكلفة شد الوجه كله إلى 670 دولاراً بحسب الحالة، فيما يتراوح متوسط تكلفة عملية تجميل الأنف بالليزر بين 350 إلى 800 دولار.
بالنسبة إلى الجسم، يكلف شفط الدهون بين 30 دولاراً و100 دولار، بحسب المنطقة المراد شفط الدهون منها، أما نحت كامل الجسم فيكلف نحو 1700 دولار.
هوسٌ وليس شغفاً
تعجب لمياء لخمسينيات وستينيات يقبلن على عمليات التجميل و”يبالغن فيها أيضاً، ولا أعرف لم يردن أن يكن استهلاكيات وهن في عمر النضوج”، إلا أن الحجلي يقول لـ”963+” إن الإقبال على التجميل “حالة طبيعية إذا نظرنا إلى مسبباتها، من التطور الذي نعيشه، وسيطرة التكنولوجيا على مفاصل حياتنا، والاصطناع في كل شيء”.
فهذا برأيه عصر الصورة، “بعدما حولت وسائل التواصل الاجتماعي التجميل إلى حاجة نسائية ملحة، جعلت منها المبالغة شيئاً غير طبيعي، يصل إلى حدود الهوس”.
خلافاً للحجلي، لا يجد المعالج النفسي أنس الحلبي غرابة في ما يجري على جبهة الجمال والتجميل. يقول: “الجمال فعلياً هو أن ترى امرأة جميلة في خمسينياتها، من دون تجميل، لا أن ترى فتاة جميلة في عشرينياتها”.
لا شك في أن هذا تعبير يختزل “الهوس” بنمط الجمال اليوم، يعم فتيات في عشرينياتهن، ونساء في ستينياتهن، بالحدّة نفسها. وبحسب الحلبي، هذا هوس وليس شغفاً، فعندما تبدأ امرأة بتغيير واحد في شكلها، لا تستطيع التوقف: عملية واحدة أو حقنة واحدة تصبح بمرور الوقت سبباً لبقاء المرأة ساعات طويلة أمام المرآة، تفتش عن عيوب أخرى تحاول إصلاحها، وإن لم تجدها، تخترعها، “ما دامت عالقة في حالة معقدة من عدم تقبل الذات”، كما يقول الحلبي لـ”963+”، فيصعب أن نجد امرأة بدأت بإجراء تجميلي بسيط واكتفت به، وهذا الهوس يوصلها إلى مكان تصبح فيه مغتربة كلياً عن نفسها، فاقدة هوية جسدية خاصة بها، وهذا يؤثر في حالتها النفسية ونظرتها إلى ذاتها.
للأمر حدود
ولكن، “الاعتدال هو الأساس في كل شيء”، كما يقول الحجلي، مضيفاً: “للجراحة التجميلية حدود يرسمها الجراح بمبضعه حيناً وبتوعيته أحياناً، فالاستشارة الطبية وتعريف المرضى بالمعايير التشريحية والجمالية لوجوههم مهمة جداً قبل إجراء أي جراحة تجميلة، فأما كطبيب دوري مهم جداً في توجيه المرأة بعد دراسة حالتها النفسية والأسباب التي تدفعهم إلى اللجوء للجراحة التجميلية… فربما يكون ذلك ردة فعل على حالة نفسية معينة، أو مجرد انقياد وراء صورة نمطية ما”.
بحسب الحلبي، هذه الصورة النمطية مهيمنة حقاً على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يخلق معايير مختلفة ويزيد من حدة المقارنة، “فالصورة رسمت معايير للأنوثة، بعدما كانت الأنوثة تحدد معالم الصورة، والفتيات اللواتي يتبعن هذه المعايير يعانين من شعور بالنقص يحاولن ملئه بالسعي إلى كمال متمثل في هذه الصورة، فهذا يزرع فيهن الشعور بأنهن مثاليات”، كما يقول، مضيفاً: “النساء اللواتي يرفضن هذه الصورة للأنوثة يمتلكن رضا داخلياً نادراً”.
ويعقب الحجلي بالقول: “هذا البحث عن الرضى الداخلي محفوف بالمخاطر. ففي عالم لا يسهل التعرّف حقاً على الجراح التجميلي المتمكن، تصبح رحلة المرأة بحثاً عن جمال رأته في صورة ما، وأرضاها داخلياً، مشابهةً لعذاب كبير إن تورطت وسلمت جمالها لجراح جعل من هذه المهنة تجارةً مربحة”. حينها، الخسارة كبيرة، وتعويضها صعب إن لم يكن مستحيلاً.