لا يزال في قلب محمد مرعي (37 عاماً)، وهو نازح من بلدة البصيرة بريف دير الزور الشرقي شرق سوريا، متّسع للخوف على أطفاله الناجين، رغم الأوجاع التي يعانيها بسبب فقدانه لابنه البكر ذو الـ 11 ربيعاً.
وفي ليلة الأحد 11 آب/ أغسطس، انهمرت القذائف على حي الحويجة بالبلدة الواقعة على سرير نهر الفرات، أصابت الشظايا الفتى بجراح بليغة ليتوفى بعدها دون أن تتمكن العائلة حتى من إسعافه.
تغيرت حياة العائلة مع فقدان الابن وفرار الناجين مع غالبية سكان الحي إلى أطراف البادية القريبة.
ومنذ الأربعاء الماضي، حشدت القوات الحكومية وفصائل موالية لها وأخرى مدعومة من إيران قواتها على السرير الغربي لنهر الفرات وشنت هجمات على مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية ما بعد الضفة المقابلة.
بين الرعب والنزوح
تصاعدت الاشتباكات وزادت التعزيزات وتبادل طرفا النزاع القصف بالقذائف التي سقطت في المناطق المأهولة بالسكان هنا وهناك، لتقتل وتصيب نحو 100 شخص حتى الآن، أحدهم ابن “المرعي”.
يقول الأب، لـ”963+”: “حاولت جاهداً إسعافه، لكن القصف استمر بلا هوادة، ولم يكن بإمكاننا الوصول إلى المستشفى”. ويضيف عن ابنه: “كان قلب عائلتنا”.
وفي البصيرة مشفى تديره لجنة الصحة التابعة لمجلس دير الزور المدني، ويقتصر عمله على تقديم الإسعافات الأولية وبعض المعاينات الطبية بعد إيقاف المنظمات الدولية مساهماتها الداعمة للمشفى قبل عدة أشهر، ما يجبر المرضى الذين يحتاجون لعمليات جراحية للسفر مسافات طويلة للوصول لمشفى الشحيل أو مشاف أخرى.
وهناك في البادية القريبة وعلى عكس النازحين الآخرين، لا يتحدث “المرعي” والمكلومون مثله عن المنزل والممتلكات التي تركوها خلفهم، وقد تجدهم لا يسألون حتى عن العودة، بل همهم الشاغل هو إبقاء من تبقى من أفراد عائلاتهم في مأمن من القذائف والرصاص.
تفاصيل الفاجعة
يتذكر الأب تفاصيل فاجعة الأحد، كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، حين سقطت قذائف الهاون القادمة من جهة الضفة الغربية للفرات، “كان الدوي مرعباً والأرض تهتز من تحتنا كأنه زلزال”.
الذعر أصاب الجميع بحيرة حيال ما يجب أن يفعلوا، قبل أن تصيب الشظايا الطفل، الابن الأكبر للعائلة.
تتغير ملامح الرجل الثلاثيني مع ذكر التفاصيل: “الأشد إيلاماً، كان مشاهدتي له يعاني ويتألم أمام عيني، والده يراقب أوجاعه دون أن يستطيع فعل شيء”.
وشهدت بلدة البصيرة معارك عديدة منذ العام 2012، بدءاً من فصائل المعارضة المسلحة “الجيش الحر”، إلى سيطرة تنظيم “داعش” عام 2014، ثم تحريرها على يد “قسد” المتحالفة مع التحالف الدولي عام 2019.
وشهدت البلدة وأريافها في السنوات القليلة الماضية تفجيرات واغتيال موظفين للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، على يد خلايا “داعش”، وسقوط ضحايا في انفجارات ألغام ومخلفات حرب، لكن الحرب هذه المرة باغتت السكان بمآسيها غير المتوقعة.
يؤكد “المرعي”: “لم نكن نملك أي خطط أو أفكار لمواجهة مثل هذا القصف؛ كنا نعيش في أمان واستقرار، وفوجئنا بالهجمات العنيفة”.
يقول إنه أصيب بـ”حالة خوف دائمة على أفراد عائلته”.
ويتلفت حوله ليشير إلى العائلات النازحة: “كل يوم يحضر أناس آخرون، توفى أو أصيب أفراد من عائلاتهم مثلي، أو تضررت منازلهم وسياراتهم وممتلكاتهم، لا ندري إلى متى سنبقى في خيام عل أطراف الصحراء”.
تأثير القصف على الحياة اليومية
لم يقتصر القصف على القتل والتدمير فحسب، بل طال البنى التحتية الحيوية التي يعتمد عليها السكان في حياتهم اليومية. محطات الكهرباء والمياه لم تسلم من القصف، مما أدى إلى تعطلها أو توقفها بالكامل.
في بلدة البصيرة، تضررت أبراج الكهرباء، مما أغرق المنازل في ظلام دامس. كما توقفت محطات المياه عن العمل، إما بسبب الأضرار المباشرة أو خوفاً من استهداف العاملين في هذه المحطات.
الرعاية الصحية في دير الزور تدهورت إلى حدٍ كارثي. المشافي التي لا تزال تعمل تجد نفسها غير قادرة على تلبية احتياجات المصابين، نظراً لنقص الأدوية والخبرات الطبية. ازدحام المصابين جعل الوضع أكثر تعقيداً، في ظل عدم وجود طرق آمنة لنقلهم إلى مشافي أكثر تجهيزًا خارج المدينة.
أصوات من قلب المعاناة
محمد المرعي ليس الوحيد الذي يعاني، فـنور البدر من بلدة الدوير بريف دير الزور الشرقي غربي الفرات، تحمل قصةً مشابهة. ففي إحدى الليالي، وبينما كانت تجلس مع عائلتها في فناء المنزل، انقطع هدوء الليل بصوت قذائف هاون ومدفعية. فجأة، اخترقت قذيفة سقف المنزل، لتدمر غرفة المعيشة والنوم، وتتركهم في حالة من الذعر والفزع. الحياة تحولت إلى كابوس مستمر، مع كل قذيفة تنهار قطعة أخرى من منزلها، ليصبح العيش تحت سقف ينهار تدريجياً ضرباً من المستحيل، كما تصف البدر الوضع لـ”963+”.
دفعت الهجمات العشوائية آلاف المدنيين إلى النزوح، وتركوا منازلهم وممتلكاتهم بحثًا عن أمانٍ بعيد عن جحيم القصف. أبوحمام، الدحلة، البصيرة، والدوير كانت من بين المناطق الأكثر تضرراً. معظم أهالي هذه البلدات يعيشون الآن في خيام على أطراف الصحراء، بعيداً عن ديارهم وأحلامهم التي باتت معلقة بين العودة المستحيلة والعيش في المجهول.
نداءات إنسانية
مع تصاعد الأوضاع، تعمل المنظمات الإغاثية المحلية والدولية على تقديم الدعم للنازحين، لكن التحديات أكبر من إمكانياتهم. فالوضع الاقتصادي يزداد سوءاً مع توقف الخدمات الأساسية وارتفاع الأسعار. نقص المواد الغذائية وانقطاع المياه والكهرباء يزيد من معاناة الأهالي، الذين يقفون عاجزين أمام واقع لا يرحم.
الناشط المدني أحمد الصالح، يشير في حديث لـ”963+” إلى أن “عدد القتلى من المدنيين خلال الأسبوع الأخير بلغ 21 شخصاً، غالبيتهم من النساء والأطفال”.
كما “دُمّر أو تضرر أكثر من 30 منزلًا، ونزح أكثر من 3000 شخص”، بحسب الناشط. فالبنية التحتية في حالة انهيار شبه تام، ومحطات الكهرباء والمياه مدمرة أو متوقفة، مما يزيد من حدة الأزمة.
وفي ظل هذه الأوضاع المأساوية، يبقى الأمل في وقف القصف وإعادة الاستقرار إلى هذه المناطق هو السبيل الوحيد لإنقاذ حياة الآلاف من المدنيين في دير الزور.
كما يطالب الصالح المجتمع الدولي “بالتدخل العاجل لوقف الانتهاكات وضمان حماية المدنيين”.