أدّت التطوّرات الأمنية المتسارعة على ساحات عدّة في الشرق الأوسط، إلى وضع المنطقة برمّتها على شفير تصعيد عسكري يصعب التكهّن بحجمه ومداه، بعد سلسلة اغتيالات نفّذتها إسرائيل مستهدفةً قادة كبار في ما يسمّى “محور المقاومة”، أبرزهم اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي اغتيل أثناء زيارته طهران، وفؤاد شكر المسؤول العسكري البارز في حزب الله الذي استهدفته صواريخ إسرائيلية في ضاحية بيروت الجنوبية، بالتوازي مع استمرار حرب الإبادة التي تشنّها تل أبيب على قطاع غزّة المنكوب، مما يفاقم من حالة التوتر القائمة أصلاً.
وكما هو متوقّع، ألقى أمين عام حزب الله حسن نصر الله خطابًا أكّد فيه نيّة حزبه الردّ على العمليات الأخيرة، مؤكدًا أنّ الرد “لن يكون شكليًا بل ردّ حقيقي ومدروس جدًا”، ووصف اغتيال هنية في إيران بأنه ليس مسًا بسيادتها فقط، “بل بأمنها القومي، وهيبتها، وبشرفها”. وفي الوقت نفسه، تداولت تقارير إعلامية أنباءً عن إصدار علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة في إيران تعليماته إلى الحرس الثوري الإيراني والقوات المسلّحة من أجل رفع جاهزيتها، والاستعداد لعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، إذ اعتبر أن “الثأر لاغتيال هنية واجب على إيران”، لأنه اغتيل على أراضيها، وتوعّد إسرائيل بـ”عقاب قاسٍ” وفق تعبيره. وبحسب ما نشرته وسائل إعلام مقرّبة من طهران، اجتمع مجلس الأمن القومي الإيراني “لتحديد المكان والهدف والزمان والحجم جيدًا، حتى لا تندلع حرب إقليمية”، لأنّ إيران حريصة على منع امتداد الحرب إلى أراضيها، وفي الوقت عينه لا يمكنها إلا أن تردّ حفاظًا على ماء وجهها، ومكانتها في المنطقة.
من جهتها، حرّكت الولايات المتحدة بوارجها الحربية المنتشرة في المنطقة إلى السواحل اللبنانية، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مصدر عسكري أميركي طلب عدم الكشف عن اسمه، أنّ الولايات المتحدة تستعد لإرسال طائرات مقاتلة إضافية إلى الشرق الأوسط لمواجهة التهديدات الحالية، لكن عدد الطائرات لا يزال قيد الدراسة، وأنّ القوات الأميركية في الشرق الأوسط تتخذ “التدابير الضرورية” لتعزيز الجاهزية القتالية وحماية قوات الولايات المتحدة وحلفائها من أي تهديدات من جانب إيران أو الفصائل والميليشيات المرتبطة بها. وتتالت تصريحات مسؤولين دوليين وإقليميين من العواصم المؤثّرة، تحذّر من مخاطر حرب إقليمية وشيكة، وحثّ بعضهم مواطنيه على مغادرة إيران ولبنان بأسرع ما يمكن تحسّبًا للتصعيد القادم، وكأنّها مسألة وقت قبل بدء المواجهة المرتقبة.
لكن على الرغم من أجواء التصعيد والتصريحات النارية المتبادلة، يصعب الجزم بحتمية وقوع حرب مفتوحة مباشرة، سواء بين إيران وإسرائيل، أو بين الأخيرة وحزب الله، لأنّها ليست في مصلحة أي فريق، نظرًا إلى التكلفة البشرية والاقتصادية المهولة، وانعكاساتها السياسية على الجبهة الداخلية، وهو ما لن يكون بمقدور أيّ منهم تحمّلها بسهولة. ويدرك حلفاء هؤلاء في العالم مغبّة التصعيد غير المحسوب، وصعوبة السيطرة على نتائجه وتداعياته التي لن تقتصر على المنطقة، لهذا يتزامن التحرك العسكري الأميركي في المنطقة مع استمرار دبلوماسية القنوات الخلفية بين واشنطن وطهران بهدف الحدّ من إمكانية وقوع مواجهة إقليمية مفتوحة.
من المرجّح أن تُبذل جهود ووساطات ديبلوماسية، من جانب روسيا أو بعض دول الاتحاد الأوروبي، من أجل التهدئة، والحفاظ على قواعد الاشتباك ضمن سقوفها وخطوطها الحالية، على النحو الذي سارت وتسير عليه هجمات إسرائيل الروتينية ضدّ مصالح إيران وحلفائها. والمقصود أن تبقى الهجمات محصورة بأهداف محددة، سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو حتى اليمن، في مقابل عمليات رد الفعل الإيراني الانتقامية، سواء انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية وبمبادرة من قواتها المسلحة، أو قامت بها الميليشيات المرتبطة بها في مختلف الساحات المعنية، ومثالها ما جرى في نيسان/ أبريل الماضي، بعد استهداف إسرائيل سفارة طهران في دمشق، حيث جاء رد إيران بإطلاق عشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة من قواعدها المنتشرة في المنطقة باتجاه إسرائيل. فالمناكفات الإيرانية – الإسرائيلية على مدى عشرات السنين، توحي بوجود توازنات وتفاهمات ضمنية، استقرّ عليها شكل الصراع بينهما وأسلوب توظيفه، بحيث يكون منسوب الضجيج الأيديولوجي والتهويل الدعائي والاستعراضي فيه أعلى بكثير من حقيقته الواقعية على الأرض، وكثيرًا ما يكون الغرض منه شدّ انتباه الداخل إلى خطر خارجيّ مزعوم، وصرف النظر عن أزمات أخرى مستعصية وتثير خلافات داخلية.
بناء على ما سبق، جاز القول باستبعاد احتمال اندلاع الحرب الشاملة، مع ترجيح الاحتمالات المختلفة الممكنة لسيناريوهات المواجهة المحدودة التي يٌفترض أن تترجم الرد المنتظر من “محور المقاومة”: من سيشارك في تنيفذه؟ ما هو نطاقه وحجمه جغرافيًا وناريًا؟ وما هي طبيعة أهدافه؟ وهل ستقتصر الأمور على جبهة بعينها أم تشمل جبهات مختلفة؟ وهو ما يمكن استقراؤه من إشارات وردت في خطاب نصر الله نفسه، مثل قوله إنّ الردّ قد يأتي متفرقًا أو متزامنًا، وحديثه عن التمييز بين الرد على اغتيال فؤاد شكر واسماعيل هنية، وبين إسناد جبهة لبنان لجبهة غزة، وتأكيده أنهما أمران منفصلان. فهل تقع الحرب فعلاً، أم يلتزم اللاعبون بقواعد اللعبة؟