خاص – أفين علو/القامشلي
“إنه حلم كل امرأة أن تسكن ’جن وار‘، حيث لا رجال، إنما نساء فحسب”. هكذا تقول ياسمين، الثلاثينية من عفرين، والتي كانت تسكن في حلب بعد انفصالها عن زوجها. قصدت القامشلي لإجراء بعض المعاملات كي تتمكن من الانضمام إلى عائلتها المقيمة في إحدى الدول الأوروبية. هناك، قادتها الصدفة لتتعرف إلى “جن وار” من بعض النساء، فغلب عليها الفضول.
تروي ياسمين لـ”963+”: “زرتها، وبقيت فيها أسبوعين، وتعرفت عن قرب على الروح الموجودة بالقرية”. فـ “جن وار” بالكردية تعني وطن النساء بالعربية، “وهنا كلهن نساء قهرتهن الحياة، وعانين العنف المجتمعي والأسري، ووقعن ضحايا الحرب، لكنهن يرغبن في إعادة رسم الحياة بألوان قوس وقزح”.
لا للاستغلال الذكوري
بدأت الأعمال في بناء “جن وار” في 10 آذار/مارس 2017، في قرية كبز، التابعة لناحية الدرباسية شمال مدينة الحسكة في منطقة خصبة صالحة للزراعة، وفتحت أبوابها في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، وتأسس مجلسها في 6 كانون الأول/ديسمبر 2018، فكانت أول قرية لا يقربها الرجال، “في خطوة مؤداها تمكين المرأة بعيداً عن أي استغلال الذكوري”، كما تقول مزكين رشيد، المشرفة على “جن وار”.
وتضيف لـ”963+”: “تتألف هذه القرية من 30 منزلاً تتخذ شكل رحم المرأة، فيها 200 من النساء والأطفال، بلا أي رجل بالغ، تتراوح أعمار معظم القاطنات فيها بين 15 و40 عاماً”.
وتؤكد رشيد أن “جن وار” لا تتبع أحداً، ولا يموّلها أحد، بل هي مشروع ذاتي، والقاطنات فيها من زوجات ضحايا الحرب ومن اللواتي فقدن عائلاتهن أو معيلهن”. لذا، وجدت ياسمين نفسها في قرية النساء هذه، وتعلمت كيف تعتمد على ذاتها، وكيف تدبّر أمورها، “وهذا ما كان ينقصني فعلاً، فمجتمعنا شرقي، والمرأة مواطنة فيه من الدرجة الثانية، وأحياناً الثالثة، لا تصلح في رأي ذكوره إلا للأعمال المنزلية وتربية الأولاد”، كما تقول.
واحدة من ثلاث
ليست “جن وار” القرية النسوية الوحيدة في العالم، بل هي واحدة من ثلاث. فقرية “أوموجا”، أي الوحدة باللغة السواحيلية، قرية في مقاطعة سامبورو بكينيا. أسستها ريبيكا لولوسولي، الناشطة النسوية من قبيلة سامبورو، في عام 1999 بمساعدة 14 امرأة أخرى. اليوم، أوموجا ملجأ آمن للائي يهربن من العنف المنزلي، أو يرفضن تشويه أعضاء الإناث التناسلية، أو يتعرضن للاغتصاب.
وفي مصر، أنشئت قرية “السماحة” بمحافظة أسوان في عام 1998، بمبادرة من وزارة الزراعة، وخصصت للمطلقات والأرامل، كي يتدبرن مصادر دخل لأنفسهن، فالوضع غير مستقر في سوق العمل، بسبب الافتقار إلى الخبرة والتعليم، وهذا يصعّب على النساء كسب لقمة العيش اللائق لأنفسهن ولأطفالهن. في هذه القرية، توفر الحكومة المصرية للنساء عقارات زراعية ومنازل مفروشة، وهن يسدد تكاليف معيشتهن من الربح الذي يجنونه من الزراعة ورعاية الماشية وبيع المنتوجات الحرفية. وبمرور الوقت، أصبحت قرية السماحة ملجأً لضحايا العنف المنزلي الباحثات عن الأمان لأطفالهن ولأنفسهن.
موزاييك قوميات
في “جن وار”، نرى “موزاييك” من النساء: عربيات وإيزيديات وآشوريات وكرديات، يعشن حياة تشاركية. تقول دلال الإيزيدية، وهي أم لثلاث بنات، لـ”963+”: “عندما اخبروني عن هذه القرية، قررت فوراً أن أعيش فيها. واجهت الفكرة رفض الأهل بحكم العادات والتقاليد الاجتماعية البالية، لكنني ما أصغيت إلى كلامهم ولجأت إلى ’جن وار‘”.
من الأهداف التي بنيت على القرية على أساسها “زرع ثمار المحبة، وجني ثمارها ابتسامة دائمة”، كما تقول دلال، مضيفةً: “رأيت هنا عطفاً وحناناً من أمهات وصديقات لم أشهدهما في قريتي، حيث نظر إلي الجميع نظرة المرأة الضعيفة”.
شيفا جن
من تدخل “جن وار”، ترَ فوراً صوراً وأعشاباً تزين الجدران… قد لا يكون لها معنى بالنسبة إلى الزوار، لكن كل لوحة تحمل في الحقيقة تاريخاً بين ألوانها وتفاصيلها. فعلى سبيل المثال، عُلِّقَت على جدارٍ صورةُ عشتار إلهة الحب والجمال والحرب والتضحية في بلاد الرافدين، وبجانبها صورة العذراء مريم.
في هذه القرية، تأكل الأمهات مما يزرعن، لإنقاذ أنفسهن من متاهة السوق، ولتعزيز ثقافة الاعتماد على الذات، “وعلى هذا الأساس تم افتتاح مستشفى “شيفا جن” في عام 2023، حيث يتم تصنيع الأدوية من الأعشاب النابتة في القرية ويعالجون المريضات خارج القرية وداخلها”، كما تقول رشيد.
تضيف: “نقدم الخدمات الطبية لنساء القرية وأطفالها، وكذلك لأهالي القرى المجاورة”، وكانت الخطة تقضي بتمكين النساء من تعلم أسس الرعاية الصحية، والاهتمام بصحتهن بأنفسهن، من خلال أكاديمية ’جن وار‘، التي تهدف إلى نشر مبادئ استخدام الأساليب والأدوية الطبيعية، والامتناع عن استعمال أي مركّبات كيميائية، “من منطلق أن الطب ارتبط تاريخياً بالمرأة”.
لا حياة!
هذه القرية قريبة من الحدود السورية – التركية، تتعرض بين الحين والآخر للقصف التركي. تقول رشيد: “إننا في حالة حرب مستمرة”.
لكن، كيف يكون استمرارهن؟ هنا، الزراعة هي أساس الحياة، وصناعة الخبز عنوان كفاف كل يوم، والتعليم ملح الدنيا. تقول رشيد: “تم افتتاح مدرسة ابتدائية للأمهات اللاتي لديهن أطفال، لكنها أصيبت بأضرار فادحة بسبب زلزال 6 شباط/فبراير 2023، والترميم جارٍ”، لذا يذهب أطفال القرية إلى مدرسة ابتدائية في قرية مجاورة.
وتضيف دلال: “نستمر بتقوية ارتباط كل امرأة هنا بالأرض، وببناء روح جماعية تزرعها عميقاً في أطفالها”.