خاص – منذر محمد/القامشلي
كعادته في كل مساء، في 29 حزيران/يونيو المنصرم، أدى ملا حميدي الصلاة في المسجد، وغادره إلى منزله في بلدة الجزرات غربي دير الزور السورية. اعترضه ملثمون وأطلقوا عليه النار، فخرّ صريعاً. وكان حميدي هذا إماماً لذلك المسجد وعضواً في المجلس المحلي “كومين” في المنطقة.
كان أولئك الملثمون ينتمون إلى تنظيم “داعش”، المصنف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي دول آسيوية وعربية أخرى. وهو ليس الوحيد الذي يذهب ضحية إرهاب التنظيم، بعدما عاد نشاطه الأمني والعسكري ليتصدر الأنباء في سوريا، بسبب التصاعد الملحوظ في العمليات التي ينفذها، عدداً ونوعاً، ضد مدنيين و”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) والقوات الحكومية السورية في آن واحد.
التقط أنفاسه
تمتد خريطة نشاط “داعش” بين الحسكة والرقة ودير الزور وريف حمص، شمالاً إلى حماة وريف حلب. فما الذي أحيا عظام التنظيم بعدما كانت رميماً إثر خسارته آخر معاقله في شمال وشرق سوريا والبادية السورية؟
يقول رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، لـ”963+” إن ثمة دولاً إقليمية ترى مصلحتها في بقاء “داعش”، خصوصاً إيران وتركيا، كي تستمر الأزمة السورية.
هذا على المستوى الاستراتيجي، أما على المستوى التكتيكي، فيقول أحمد سلطان، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب، لـ”963+”: “إن المناطق الشاسعة ذات الطبيعة الصحراوية الوعرة والمترامية الأطراف في البادية السورية تمثل بيئة ملائمة لخلايا ’داعش‘ كي تستعيد روحيتها الهجومية، خصوصاً أن هذه المناطق خضعت لسيطرة التنظيم سنوات عدة، فأحسن إعدادها لتكون مسرحاً مستقبلياً لعمليات حرب العصابات، فأكثر فيها المخابئ التي تختفي فيها الخلايا الكامنة، وتصلح قواعد إطلاق لتنفيذ الهجمات المباغتة والانسحاب والعودة إليها من دون التعرّض للخطر الكبير”.
ويعقب الدكتور ماهر فرغلي، الخبير في شؤون الإرهاب، على ذلك قائلاً لـ”963+” إن خلايا التنظيم تعتمد تكتيك حرب العصابات، “أي الإغارة والكمين والذئاب المنفردة، وهذا أسلوب هجومي سريع مؤداه ضرب الهدف والهرب، باستغلال الثغرات الأمنية من خلال الاختراق والمراقبة وجمع المعلومات لتنفيذ الهجوم، ثم العودة إلى نقاط الانطلاق الخفية”، التي تحدث عنها سلطان.
ملجأ غير آمن
في الحرب التي شنتها قوات التحالف الدولي، بقيادة أميركية، استُهدف العديد من قياديي التنظيم في شمال غرب سوريا، آخرها غارة على مستوطنة الرحمة بعفرين في 16 حزيران/يونيو الفائت، أدت إلى مقتل المسؤول في تنظيم “داعش”، العراقي أسامة الجنابي.
في هذا السياق، يلفت سلطان إلى أن إدلب لم تعد ملاذاً آمناً لقياديي التنظيم، “ما دفعهم إلى الانتقال لمناطق ’الجيش الوطني‘ المدعوم من تركيا، فهذه أكثر أمناً بفضل غطاء يتيح لهم ممارسة أنشطتهم من خلال أشخاص من أبناء المنطقة الشرقية، موجودين في مناطق سيطرة ’الجيش الوطني‘، شبه موالين للتنظيم منذ أيام دولة الخلافة، أو يتقاضون منه الرشاوى، ويتولون إصدار هويات مزيفة لعناصره لتسهيل تحركهم وإبعاد العيون عنهم”.
ويوجّه الكاتب والباحث السياسي الدكتور أحمد الدرزي الأنظار نحو منطقة التنف، في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، والواقعة تحت سيطرة التحالف الدولي. ويقول لـ”963+”: “تؤمن هذه المنطقة خدمات لوجسيتية لخلايا التنظيم، وتعد مركز إمداد لهذه الخلايا في قتالها ضد القوات الحكومية السورية”.
ما زال قادراً!
في تقرير نشر في كانون الثاني/يناير الفائت، تقدر الأمم المتحدة أن يتراوح عدد عناصر “داعش” بين 3000 و5000 في سوريا والعراق، فيما تحصر القيادة المركزية الأميركية هذا العدد بنحو 2500 عنصر. لكن تقديرات عبد الرحمن مخيفة… يقول: “يتراوح عددهم بين 8000 و10000 مسلح”، على الرغم من خسارته السيطرة الجغرافية على كامل هذه المنطقة في عام 2019.
هذا العدد من المسلحين مكّن التنظيم من تنفيذ عمليات نوعية. يتابع عبد الرحمن: “المؤشرات كلها تقول إن القضاء على ’داعش‘ لم يكن نهائياً، والأدلة مثبتة في توثيقات المرصد خلال السنوات الخمسة الفائتة”.
وبحسب “قسد”، هزيمة “داعش” النهائية لا تتحقق “إلا بتجفيف بيئته الأيديولوجية والفكرية، واستهداف شبكات الاستقطاب التي تجند الأفراد والخلايا”، فيما يقول الدرزي إن الجهود التي تبذلها القوات الحكومية السورية، بدعم جوي روسي، “لا تحقق المطلوب”، متهماً القوات الأميركية في قاعدة التنف بدعم خلايا “داعش”.
أما الدكتور إياد المجالي، الباحث في العلاقات الدولية، فيرى أن محاربة “داعش” في سوريا تتم في حالة من التماهي مع المناخ الذي يؤطر الأوضاع الأمنية والسياسية، ويرسم ملامح التنافس بين الأطراف الفاعلة والمتنافسة في الصراع القائم، الأمر الذي يدفع بهذه القوى إلى التصدي للتنظيم”.
ضحايا بالآلاف
بحسب وثائق المرصد السوري لحقوق الإنسان، نفذ عناصر التنظيم 1664 عملية في مناطق ’الإدارة الذاتية‘ لشمال وشرق سوريا، بلغت حصيلتها 1342 قتيلاً ، بينهم 413 مدنياً و24 طفلاً و25 امرأة، و929 مسلحاً من ’قسد‘”.
وكانت هجمات التنظيم في البادية السورية الأشد دموية، وأوقعت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى مقارنة بمناطق “قسد”، حيث بلغ عدد هجمات “داعش” منذ هزيمته الشكلية 921 هجوماً، حصدت أرواح 2762 شخصاً: 217 مدنياً بينهم طفل وسيدتان، و2545 عنصراً في القوات الحكومية والفصائل الموالية لها.
يؤكد عبد الرحمن أن “داعش” تكبّد خسائر فادحة، “إذ فقد 2063 قتيلاً، بينهم 39 قتيلاً سقطوا في إدلب ومناطق نفوذ الفصائل المدعومة من تركيا بفعل الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف، بينهم خليفة التنظيم أبو بكر البغدادي، و622 قتيلاً سقطوا بعمليات مشتركة لـ’قسد‘ والتحالف الدولي”.
ويضيف أن الحصيلة الأكبر كانت في البادية السورية، “فالمقاتلات الروسية قتلت 898 مسلحاً في التنظيم، وقُتل 437 منهم باشتباكات مع القوات الحكومية، إضافة إلى 67 قتيلاً سقطوا بعمليات أمنية في درعا بجنوب سوريا”.
وأعلنت “قسد” حصيلة 28 عملية أمنية ضد عناصر التنظيم وخلاياه نفذتها خلال النصف الأول من هذا العام، بينها 3 عمليات واسعة النطاق في مخيم الهول، انتهت باعتقال 85 عنصراً، من بين 233 عنصراً اعتقلوا في مناطق متفرقة.