بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من الحرب التي دمرت البنية التحتية الثقافية في سوريا، تبرز اليوم ضرورة وطنية ملحّة لإعادة إعمار هذا القطاع الحيوي، لا سيما مع بزوغ ملامح “سوريا الجديدة” وانتصار الثورة. إعادة الإعمار هنا لا تعني فقط ترميم المباني والآثار، بل تتعداها إلى استعادة الذاكرة الجمعية للشعب، وهويته الثقافية التي تشكّل أساسًا لتعافي المجتمع وبناء السلام المستدام.
المشهد الثقافي المدمّر: أرقام تكشف حجم الكارثة
تشير التقديرات إلى أن سوريا فقدت نحو 70% من منشآتها الثقافية، بما في ذلك متاحف ومسارح ومكتبات وصالات عرض، كما اضطر أكثر من 12 ألف مبدع سوري — بين فنانين وموسيقيين وكتّاب — إلى الهجرة أو اللجوء، بحسب تقارير رسمية وأخرى صادرة عن منظمات ثقافية سورية ودولية.
الحرب لم تقتصر على استهداف الحجر، بل طالت الرموز الثقافية التي تعبّر عن هوية السوريين. ففي دمشق وحلب وحدهما، تم تدمير أكثر من 30 مرسماً لفنانين تشكيليين معروفين، فيما هاجر نحو 65% من الفنانين التشكيليين المؤثرين، خاصة إلى ألمانيا ولبنان.
أما السينما السورية، فتوقفت عجلة الإنتاج الخاص تماماً، مع إغلاق حوالي 85% من صالات العرض وتوقف مهرجان دمشق السينمائي. في المقابل، اقتصرت المؤسسة العامة للسينما على إنتاج أفلام دعائية قُوطعت ومنعت من المشاركة في المهرجانات الإقليمية والعالمية.
المسرح لم يكن أحسن حالاً؛ إذ تراجع عدد العروض السنوية من 200 إلى أقل من 10 بحلول 2023، وسط استمرار توقف مهرجان دمشق المسرحي، وتعرّض عدد من الفنانين المسرحيين للاعتقال أو الاغتيال، من بينهم الفنان زكي كورديللو، الذي ما يزال مصيره مجهولًا.
اقرأ أيضاً: 963media.com/15/04/2025/الشاعرة-عبير-سليمان-الشعر-سوريا/
في المجال الموسيقي، فقدت الأوركسترا الوطنية والفرقة السورية للموسيقى العربية نحو 40% من أعضائهما، فيما هاجر نخبة أساتذة المعهد العالي للموسيقى، وأُغلقت عدة معاهد موسيقية رسمية وخاصة في محافظات عدة.
أما النشر، فتراجع بشكل حاد مع توقف معرض دمشق الدولي للكتاب، وانخفاض عدد دور النشر النشطة من 50 إلى 7 فقط. كما أدى تردي الأوضاع الاقتصادية إلى بيع العديد من المكتبات الخاصة، فانتقلت الكتب من الرفوف إلى أرصفة الشوارع، في مشهد مؤلم يعكس واقع الثقافة في زمن الحرب.
أولويات إعادة الإعمار: رؤية متكاملة ومستدامة
تؤكد الدكتورة نجلاء الخضراء، الباحثة في التراث، في تصريحات للعدد السابع من صحيفة “963+”، أن إعادة إعمار القطاع الثقافي السوري يتطلب مشروعاً متكاملاً يعيد إحياء الهوية الثقافية والاجتماعية، ويشمل دعم الحرف اليدوية والصناعات التقليدية التي شكّلت جزءًا من الاقتصاد الوطني لعقود.
وترى أن هذه الرؤية يجب أن تُبنى على تجارب سوريا التاريخية في التعافي، مثل تخطيط المدن في تدمر وماري، والإصلاحات الاجتماعية التي شهدتها البلاد في العصور الإسلامية، مع ضرورة إعادة هيكلة الهوية الثقافية بما يراعي تنوعها وغناها.
بدورها، شددت الفنانة التشكيلية ريم قبطان، رئيسة مجلس إدارة جمعية “بيت الخط العربي والفنون”، في تصريحات للعدد ذاته من الصحيفة على أهمية أن تكون عملية إعادة الإعمار شاملة وطويلة الأمد، بمشاركة فعالة من المجتمع المحلي، وبرامج واضحة قابلة للقياس، تدمج بين حماية التراث المادي واللامادي، وتُعزز النسيج الاجتماعي، وتُشجع على عودة النازحين لممارسة طقوسهم الثقافية المتوارثة.
اقرأ أيضاً: إلهام أبو السعود.. ستة عقود من الإبداع الفني – 963+
تحديات وحلول
يقول الشاعر والإعلامي علي الدندح، عضو اتحاد الكتّاب العرب، لـ”963+” إن عملية إعادة الإعمار الثقافي تواجه تحديات جسيمة، أبرزها نهب الآثار، وصعوبة توثيق الخسائر، وترهل المؤسسات الرسمية، وضعف منظمات المجتمع المدني الثقافية. ويرى أن التعاون مع منظمات دولية مثل “اليونيسكو” بات ضرورة لتوفير الخبرات والدعم المالي، مع أهمية إشراك المجتمع المحلي في اتخاذ قرارات الترميم والحفظ بما يتماشى مع الهوية الثقافية السورية.
وشدد على أن مشروع التوثيق يجب أن يأخذ في الاعتبار تنوع الحضارات التي مرت على سوريا، من عمارة تدمر الرومانية والعربية، إلى المواقع المسيحية والمساجد والقلاع التاريخية، مع التركيز على الحفاظ على المواقع ذات الرمزية الاجتماعية والوطنية.
الاستثمار في الثقافة: ركيزة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي
ترى الفنانة والخطاطة ريم قبطان، في تصريحاتها لـ”963+”، أن إعادة إعمار القطاع الثقافي لا يجب أن تُفهم فقط كاستعادة للماضي، بل كاستثمار في المستقبل. فالثقافة، برأيها، تشكّل جسرًا نحو السلام، وتعزز التنمية المستدامة من خلال دعم الصناعات الحرفية، والسياحة الثقافية، والتعليم الإبداعي.
من جهتها، دعت الفنانة التشكيلية ومصممة العمارة الداخلية هديل اللبابيدي، قائدة فريق “وجه آخر” الفني، إلى دعم الفنانين والمبدعين السوريين في الداخل والخارج، لإعادة بناء المشهد الثقافي السوري، بما يساهم في إعادة الأمل، ويدعم التماسك الاجتماعي، ويُعيد إحياء الحراك الثقافي الشبابي.
الثقافة كأولوية وطنية
إن إعادة إعمار القطاع الثقافي في سوريا لم تعد خياراً، بل ضرورة استراتيجية تتطلب رؤية شاملة تنسجم مع أهداف الثورة التي انتصرت، وتسعى إلى استعادة مكانة سوريا الثقافية والحضارية. فالثقافة ليست فقط مرآة للماضي، بل بوابة عبور نحو المستقبل، ومصدر من مصادر التعافي الاقتصادي والاجتماعي، وبوصلة ترشد السوريين في مسيرتهم نحو النهوض من جديد.