تعيش تركيا هذه الأيام حالة من التوتر السياسي غير المسبوق، حيث ظهر على سطح الأحداث تطور دراماتيكي يتعلق بأكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، الذي أصبح فجأة محط اهتمام الإعلام والشارع التركي بعد أن تم إلقاء القبض عليه، في خطوة شكلت مفاجأة في الأوساط التركية.
ويُعتبر إمام أوغلو من أبرز الشخصيات المعارِضة في تركيا، وهو علماني الهوى، ومعارض للرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وقد وُلد في عائلة تحظى باحترام كبير في المجتمع التركي. وكان يظن الكثيرون أن وصوله إلى رئاسة بلدية إسطنبول هو استكمال لمسيرة سياسية قد تقوده إلى منصب رئيس الجمهورية في المستقبل. لكن سرعان ما ظهرت جملة من القضايا القانونية التي باتت تهدد مستقبله السياسي، ومنها تهم مرتبطة بإجراء مناقصات غير نظامية، وبدفع رشاوى متعلقة بنقل دراسته من إحدى جامعات قبرص إلى إسطنبول بصورة غير قانونية، إضافة إلى اتهامات أخرى مرتبطة بـ”مساعدة جماعة إرهابية والاشتباه بقيادة منظمة إجرامية”، حسب المدعي العام التركي.
يخشى الحكم الحالي في تركيا من قيادة إمام أوغلو الانتخابات الرئاسية وتصدر مشهدها في عام 2028، خاصة وأنه يحظى بدعم قطاعات واسعة من المعارضة التركية، كما الكثير من رجال الأعمال والصحفيين والفئات الشابة والعلمانية، وهو الأمر الذي لا يبدو أن أردوغان ومن معه في وارد السماح به. فكان الانقضاض الأول على إمام أوغلو عبر فضح شبهة تزوير شهادته الجامعية، خاصة وأن الدستور التركي ينص، في المادة 101 منه، على حمل أي مرشح رئاسي شهادة جامعية عليا. تلا ذلك، نشر أخبار في الإعلام عن صفقات مشبوهة ومناقصات غير نظامية مارستها بلدية إسطنبول، ليعود ويعتقل الأمن التركي إمام أوغلو ومعه حوالي 100 شخص من رجال أعمال وصحفيين ومستشارين، في خطوة اعتبرها حزب “الشعب الجمهوري” المعارض “شبه انقلاب مدني على الديموقراطية”.
بعد هذه التطورات، تتنوع السيناريوهات المتوقعة في السياسة التركية الداخلية وتطوراتها الرئاسية المفتوحة قبل أوانها. السيناريو الأول قد يتعلق بإصرار إمام أوغلو على ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة، على الرغم من العوائق القانونية التي تواجهه، وأبرزها ما يتعلق بشهادته الجامعية. هذا الأمر يمكن تخطيه، بحسب بعض الصحف التركية المعارِضة، في حال التحاق إمام أوغلو سريعاً بإحدى الجامعات التركية والحصول على شهادة منها. غير أن ذلك يرتبط، بشكل مباشر، بالمحاكمات والتحقيقات في السلك القضائي التركي ومدى سماحها بهذا الأمر. عملياً، يبدو أن هذه الخطوة قد لا تكون سهلة التحقيق، خاصة مع تعدد التهم الموجهة إليه، ووجود احتمال قوي بأن يتعرض للسجن على خلفية القضايا المتهم بها. ولكن، يراهن إمام أوغلو على التعاطف الشعبي معه، بعدما اندلعت مجموعة من المظاهرات المؤيدة له بعد نشر خبر اعتقاله، كما اضطرت السلطات التركية لإغلاق البورصة، فيما تراجعت قيمة العملة التركية إلى أدنى مستوى لها في التاريخ، ما يؤكد على عمق الأزمة التركية الحالية ومدى تأثير إمام أوغلو على السياسة الداخلية.
أما السيناريو الثاني، وهو الأكثر ترجيحاً، فيرتبط بإعلان رئيس حزب “الشعب الجمهوري” أزغور أوزال ترشحه للرئاسة، فيقطع الطريق على إمام أوغلو، ويصبح هو المرشح الأول للمعارضة. هذا السيناريو بدا مساء الأربعاء 19 مارس/آذار الحالي، ليلة القبض على إمام أوغلو، أكثر قرباً من الواقعية، بعدما زار أوزال زوجة إمام أوغلو في منزلها تضامناً، ولمّح إلى أن المعركة “يجب أن تستمر مهما تغيّرت الأدوات والوسائل”.
منذ فترة طويلة، كان يُنظر إلى أوزال على أنه الرجل الذي يقف خلف إمام أوغلو، فيما يتعامل هذا الأخير معه على اعتباره سنده في قيادة الحزب، ولكن هذا الوضع قد يتغيّر الآن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية. إن أوزال، الذي طالما حافظ على صورة الرجل القوي في المعارضة، قد يجد نفسه مرشحاً طبيعياً لقيادة تركيا، خصوصاً في ظل عدم نجاح المعارضة التركية في التوحّد خلف رجل واحد ضد حزب “العدالة والتنمية” الحاكم منذ عام 2002.
أما السيناريو الثالث الذي لا يمكن تجاهله أيضاً، فهو إمكانية تطور الأوضاع لصالح رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، المرشح الدائم لرئاسة الجمهورية، والذي لا ينقصه شيء سوى إزاحة إمام أوغلو من دربه. ليافاش ميول علمانية وقومية في آن معاً كما هو مقبول عند فئات واسعة من الجمهور التركي، وهو ما يمكّنه، في حال توحد المعارضة خلفه، من قيادة حملة رئاسية تنذر حزب أردوغان بالخسارة الجسيمة. غير أن أزمته الحقيقية تبقى في إيجاد قبول وتوافق عليه لدى القوى السياسية والناخبين الأكراد واليساريين الذين يفضلون مرشحين آخرين عليه.
في هذا السياق، قد تظهر شخصية جديدة قادرة على تغيير مجرى الانتخابات المقبلة، خاصة وأن أردوغان قد تعهد، لأكثر من مرة، بعدم خوضها، ألا وهو هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي الحالي. في حال قرر فيدان الترشح للرئاسة، فإن دعمه من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كما القوميين الأتراك سيكون مؤمناً وحاسماً. فيدان، الذي يمتلك تاريخاً طويلاً في العمل الاستخباراتي، قد يكون له تأثير كبير على الرأي العام التركي، خصوصاً إذا قاد حملة انتخابية جيدة ومقنعة للجمهور.
على الرغم من أن القضايا التي تلاحق إمام أوغلو قد تكون بداية لنهاية حلمه الرئاسي، إلا أنها قد تكون أيضاً بداية لتحولات عميقة في المشهد السياسي التركي، فتشهد صعود شخصيات جديدة، وتغييراً في توازن القوى السياسية، مما يجعل الانتخابات الرئاسية لعام 2028 ميداناً مفتوحاً للمفاجآت. ولكن في الوقت نفسه، من المحتمل أن تؤدي تلك الأزمة إلى تفاقم الاضطرابات الداخلية في تركيا، ما يجعل موقف حزب “العدالة والتنمية” ورئيسه أكثر صعوبة في المرحلة القادمة.