تشهد تركيا واحدة من أكثر الأزمات السياسية تعقيداً في تاريخها الحديث، مع تصاعد التوترات بين الحكومة والمعارضة على خلفية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو. تأتي هذه التطورات في سياق سياسي حساس، حيث يزداد الصراع بين الأحزاب الكبرى قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة. فهل يمثل اعتقال إمام أوغلو خطوة قانونية بحتة أم أنه جزء من استراتيجية سياسية لإضعاف المعارضة؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذه الأزمة على المشهد السياسي والاقتصادي في تركيا؟
وفي 19 مارس 2025، نفذت السلطات التركية حملة اعتقالات واسعة في إسطنبول شملت رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، بالإضافة إلى 106 أشخاص آخرين، بينهم رؤساء بلديات فرعية وصحفيون. ووجهت إليهم تهماً تتعلق بالفساد، وتشكيل منظمة إجرامية، والتلاعب بالمناقصات. كما وُجهت إلى إمام أوغلو تهمة “مساعدة منظمة إرهابية” بسبب تعاونه مع حزب مؤيد للأكراد خلال الانتخابات المحلية عام 2024.
موجة احتجاجات ومواقف المعارضة
أثارت هذه الاعتقالات موجة واسعة من الاحتجاجات في إسطنبول ومدن تركية أخرى، حيث تجمع الآلاف أمام مقرات حزب الشعب الجمهوري، معبرين عن رفضهم لما وصفوه بـ”الانقلاب على الديموقراطية”. واندلعت مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن في بعض المناطق، وسط تعزيزات أمنية مكثفة.
وفي أعقاب الاحتجاجات، أعلنت محافظة إسطنبول عن حظر الاجتماعات والتظاهرات من 19 إلى 23 مارس، لضمان النظام العام. كما أغلقت السلطات محطات المترو المؤدية إلى ميدان تقسيم، وفرضت قيوداً على الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة.
من جهته، اعتبر رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، أن اعتقال إمام أوغلو يمثل “انقلاباً ضد الديموقراطية”، مؤكداً أن السلطات تستخدم القضاء لإقصاء المنافسين السياسيين. ويرى محللون أن هذه الخطوة تأتي في إطار مساعي الحكومة لإضعاف المعارضة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة مع بروز إمام أوغلو كمرشح قوي ضد الرئيس رجب طيب أردوغان.
دوافع الاعتقال وانعكاساته
صرّح الباحث في العلوم السياسية والدولية، طه عودة أوغلو، لموقع “963+” بأن تداعيات اعتقال إمام أوغلو ستظل تسيطر على المشهد السياسي التركي لفترة طويلة. وأوضح أن التهم الموجهة إليه تأتي في سياق الصراع القائم بين الحكومة والمعارضة، لا سيما في ظل الاستعدادات المبكرة للانتخابات الرئاسية المقبلة.
وأضاف عودة أوغلو، أن الحكومة تصر على أن المسألة قانونية بحتة، إلا أن التوتر السياسي الحالي يعكس صراعاً انتخابياً متصاعداً بين الرئيس أردوغان وإمام أوغلو، خصوصاً بعد إعلان الأخير نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. كما أشار إلى أن هناك تسريبات عن احتمال سعي أردوغان إلى تعديل دستوري يتيح له الترشح لولاية ثالثة.
ولم تقتصر تداعيات اعتقال إمام أوغلو على المشهد السياسي فحسب، بل امتدت إلى الاقتصاد أيضاً. فقد شهدت الليرة التركية تراجعاً حاداً أمام الدولار الأميركي، حيث انخفضت بنسبة تجاوزت 6% لتسجل 40 ليرة مقابل الدولار، قبل أن تتعافى جزئياً إلى 38 ليرة. وأدى هذا الانخفاض إلى حالة من عدم الاستقرار في الأسواق المالية، مما أثار قلق المستثمرين.
وحذر الباحث طه عودة أوغلو من أن هذه التطورات قد تؤثر على الاقتصاد التركي في وقت تسعى فيه الحكومة إلى إنعاشه. في هذا السياق، أكد وزير المالية محمد شيمشك أن هذه التطورات ستؤثر سلباً على البرنامج الاقتصادي، وسط مخاوف من أن تؤدي الأزمة السياسية إلى تعميق التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد.
قلق أوروبي وحذر أميركي
أثارت الاعتقالات ردود فعل دولية واسعة، حيث أعرب رؤساء بلديات في أوروبا عن قلقهم وطالبوا بالإفراج عن إمام أوغلو، معتبرين أن هذه الخطوات قد تؤثر على مسار الديموقراطية في تركيا.
وفي هذا السياق، صرّح المحلل السياسي التركي، هشام جوناي، لـ”963+” بأن الاتحاد الأوروبي كان أكثر انتقاداً لهذه الخطوة مقارنة بالولايات المتحدة، إذ اعتبرها “تدخلاً سياسياً في القضاء”. لكنه أشار إلى أن وسائل الضغط على أنقرة تبقى محدودة، نظراً لأن ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي معلّق منذ سنوات، والعلاقات الاقتصادية تحكمها المصالح المشتركة.
وأضاف جوناي أن تركيا تمتلك أوراق ضغط، أبرزها ملف اللاجئين، وهو ما يجعل الاتحاد الأوروبي حذراً في اتخاذ أي إجراءات تصعيدية ضد أنقرة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد لفت جوناي إلى أن “العلاقات الوثيقة بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تؤثر على موقف واشنطن، مما يجعل من غير المرجح أن تصدر واشنطن موقفاً صارماً يتجاوز البيانات الشفهية”.
تضامن شعبي وانقسامات سياسية
على الصعيد الداخلي، شهدت عدة جامعات تركية مظاهرات طلابية للمطالبة بالإفراج عن إمام أوغلو، وسط تزايد التضامن الشعبي معه. في المقابل، يرى بعض المحللين أن المعارضة قد تواجه أزمة داخلية بشأن اختيار مرشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة مع بروز أسماء مثل منصور يافاش وأوزغور أوزيل.
ويبدو أن اعتقال إمام أوغلو لن يكون مجرد حدث سياسي عابر، بحسب محللين، بل قد يشكل نقطة تحول في الصراع بين الحكومة والمعارضة، خاصة في ظل تزايد الضغوط الداخلية والخارجية.