ما من شك أن لوسائل التواصل الاجتماعي العديد من المزايا التي لا تتوقف عند سرعة التواصل بين البشر، بل تتعداها لتصل إلى سهولة تبادل المعلومات والانفتاح على الثقافات الأخرى، وكشف العوالم المجهولة أمام الجميع، واختزال العالم ليتحول كما عرف منذ زمن بمصطلح القرية الصغيرة، والاطلاع علي تفاصيل الكون ومعرفة مجاهله وأسراره بيسر وإتاحة للجميع، بعد أن كانت معظم هذه المعلومات تحتاج إلى ثقافة عالية ومعرفة باللغات الأخرى ومستوى مادي متقدم؛ وهذه كلها ميزات تخدم البشرية وتساهم في زيادة الوعي الاجتماعي والإنساني والمعرفي وفهم الذات والآخر واندماج الثقافات البشرية بما يصب في قلب الحضارة الإنسانية وتطور البشرية بما يفترض أنه في صالح الأجيال القادمة التي ستعيش علي كوكب الأرض.
ورغم أن هذه الوسائل تتيح سهولة انتقال المعلومة وانتشارها للجميع إلا أنها أيضا تحولت إلى منابر لتناقل معلومات خاطئة أو غير مؤكدة تقدم على أنها الحقيقة الكاملة، والمشكلة في جمهور وسائل التواصل أنه في معظمه جمهور كسول، يستسهل ما يقدم له دون أي محاولة للبحث أو للسؤال أو حتى للمحاكمة العقلية حول صدق المعلومة وحيثياتها وواقعيتها.
وليس أدل على ذلك من الأقوال المأثورة المنتشرة على وسائل التواصل والمنسوبة إلى كتاب وعلماء وفنانين ومشهورين، وبعضهم مات منذ مئات السنين، ومع ذلك نجد قولاً منسوباً له يتناقله حتى مثقفون دون أدني تدقيق بما هو مكتوب، فتخيلوا مثلا أن ينسب القول التالي إلى شكسبير: (الناس الذين قاموا بأشياء خاطئة في حقك سيعتقدون دائماً أن منشوراتك موجهة ضدهم)! تخيلوا أن شكسبير الشاعر الملحمي الذي عاش في القرن السادس عشر ينسب إليه قولاً تافهاً مثل هذا القول الذي تدل فيه مفردة “منشوراتك” على راهنيته، فمفردة منشورات تم تداولها بعد ظهور وسائل التواصل، إلا إذا كان شكسبير راء وعرّاف على طريقة ليلى عبد اللطيف فتنبأ بما سيكون عليه الحال في القون الحادي والعشرين وقال قوله “العبقري” هذا.
والمدهش أنني رأيت هذا القول على صفحة كاتبة ومثقفة ومخرجة عربية يتابعها عشرات الآلاف ويفترض فيها توخي الدقة والحرص فيما تقدمه لمتابعيها. وليست هي الوحيدة على كل حال، إذ يتناقل مثقفون عرب منشورات بالغة الركاكة والتفاهة منسوبة لديستويفيسكي وموتزارت وعلي بن أبي طالب والمتنبي وميريل ستريب ونيتشه وغيرهم كثر من كبار مشهوري العالم؛ أما الأكثر رواجاً على وسائل التواصل هو شمس الدين التبريزي الذي تنسب إليه أقوال تصلح لأن تكون عناوين في ورشة خاصة بالتنمية البشرية وأن يكون هو المدرب الرئيسي في هذه الورشة، وأغلب المنسوب إليه مأخوذ من رواية التركية إليف شفق قواعد العشق الأربعون، التي بدورها نسبت إلي شمس الدين التبريزي أقوالاً ومقبوسات تتناسب مع السرد والقصة والحبكة الروائية، ولا يوجد أي إحالة في هوامش الرواية إلى مصادر لتلك الأقوال، ومع ذلك يستمر جمهور وسائل التواصل العربي في تناقل تلك الجمل بوصفها جملاً لشمس الدين التبريزي دون أن يذكر أحد أيضاً أنها من رواية قواعد العشق الأربعون.
وفي هذا المكان نتذكر دائماً وأبداً النص الركيك والسخيف والمليء بالأخطاء النحوية الذي نسب لأدونيس في شتيمة بني أمية قبل عدة سنوات، ذلك النص الذي يعجز أدونيس نفسه لو تقصد افتعال الركاكة والهزالة عن كتابته تناقله، وما يزال، عدد كبير من المثقفين السوريين (الثوريين)، وشتموا به أدونيس دون أدنى تحر للدقة أو للموضوعية في حقيقة ذلك الهراء الذي ظهر فجأة على وسائل التواصل منسوبا لشاعر ومثقف مهما اختلفت معه سياسياً وفكرياً لا يمكنك إنكار أهميته أو قدراته اللغوية الرفيعة.
لكن الشعبوية، من إحدى مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي هو قدرتها على جذب الغوغاء والعامة عبر منشورات تتناسب مع بديهيات الملايين من أبناء شعوبنا المهمشة والمقصية عن الوعي العلمي لصالح كل ما هو غيبي ومسلّم به، وتغذي لديهم ميلهم للركون إلى ما يعرفونه دون الحاجة لطرح أسئلة تستفز العقل، فالعقل هنا معطل ولا داع لاستخدامه مادام هناك نص أو نصوص تعتقد العامة أنها تجيب على كل الأسئلة في كل زمان ومكان، ومادام هناك نخب تؤكد على ما تقوله تلك النصوص وتقدمها في أطر براقة تحمل عناوين براقة أكثر مثل الثورية أو الوطنية أو الوقوف مع الطبقات المهمشة أو غيرها من هذه العناوين القادرة على جمع المريدين المتشابهين على هيئة “شيخ طريقة” لكنها هيئة أكثر حداثة، هيئة افتراضية تسعى إلى جمع أكبر عدد من المتابعين والحصول منهم على (لايكات) لا تعد ومشاركات لا تحصى لأي هراء يكتبه شيخ الطريقة ذاك.
هناك استثمار للعامة وغرائزها يظهر في المحتوى الذي يقدمه نصابو ونصابات وسائل التواصل الاجتماعي تحت بند الدين والأخلاق والحفاظ على ثوابت المجتمع أو على السنة النبوية أو قيم الأسرة العربية. وللأسف فإن هذا النوع من المحتوى هو الأكثر رواجاً في وسائل التواصل، مثله مثل محتوى التنمية البشرية والمحتوى الجنسي، خصوصاً بعد أن أصبحت هذه الوسائل تدر الأرباح والأموال على مستخدميها وساعدت على نشوء طبقة جديدة من الأثرياء المشهورين، ليس لديهم أي موهبة أو ثقافة أو معرفة سوى ثقافة النصب أو الإغراء الغريزي أو موهبة اللعب بالهوس الجمعي العربي المتمثل في الدين وفي الجسد الأنثوي.
ويمكن هنا لأيٍّ كان تصفح بعض الصفحات الخاصة بالفن، كيف يوجه منشئوها العامة لشتم الفن والفنانين عموماً واعتبار الفن مهنة متهتكة. وشتم الممثلات على وجه التحديد وخصوصا إن كانت إحداهن تظهر بعضا من جسدها فسوف تتحول لدى غوغاء وسائل التواصل إلى عاهرة وغانية باعتبار أن اللباس الخاص بنساء العرب هو المقفول والحجاب على ما قاله الرعيل الأول من نصابي الدين كالشعراوي وعمر خالد وغيرهم من دعاة ذلك الزمن.
لكن الصادم هو أن الكثير من الفنانين يعطون للعامة ما تريده في حديثهم عن إيمانهم وعن رغبتهم في التوبة “حين يأذن الله”، في حالة نفاق مهولة لا يمكن تسميتها سوى بالنصب، وهس الصفة السائدة حالياً للأسف لدى مجتمعاتنا العربية التي لم تستطع إنجاز التغيير المرجو من الربيع العربي بسبب قدرة الأنظمة العميقة على استخدام كل ما يتعلق بالدين وبالعنف لصالحها، فحولت ظاهرة الربيع العربي إلى انتفاضات دينية مستغلة الفقر والجهل الذي كرسته عبر عقود في قلب المجتمعات وأعادت إنتاج نفسها بشكل أكثر عنفاً وأكثر رغبة في تدمير ما تبقى من مدنية لدى هذه المجتمعات. أو يمكن متابعة بعض الصفحات الخاصة بالدين وقراءة العدد المهول من التعليقات التي تدل على تعطيل العقل العربي الجمعي بشكل كامل؛ وهنا يمكنني أن أذكر حساب لنصاب ديني على منصة تيكتوك يتابعه مئات الآلاف كان قبل مدة قد نشر فيديو عن السنة في المشي للرجال المسلمين، مؤدياً طريقة في المشي قال إنها الطريقة التي كان يمشي بها محمد رسول الله وهي ما يجب على المسلمين اتباعه، هذا الفيديو مثلاً حظي بآلاف التعليقات الشاكرة له حفظه للسنة النبوية دون أن يتساءل أحدهم كيف عرف هذا النصاب طريقة مشي الرسول؟ هل شاهد له فيديو مثلا؟ وطبعاً لن تستغربوا أن غالبية متابعيه هم من مصر وبلاد الشام والمغرب العربي، بينما نادراً ما عدنا نجد متابعين من الخليج العربي لمحتوى كهذا.
لقد توقف الخليج أخيراً عن تمويل حملات تجهيل المجتمعات العربية التي كانت ومازالت الأنظمة الاستبدادية تتبناها، وتراجع عن دوره كحام للدين وبدأ دوراً معاكساً تماماً يتبنى من خلاله دعم الفن والسينما والانفتاح، وهو ما يجعلنا نسعد للشعب الخليجي الذي يستحق حتماً الحريات الاجتماعية الناشئة حالياً، ولكننا في نفس الوقت نشعر بالأسف لما كرسه المال الخليجي في تواطئه مع أنظمتنا العسكرية المستبدة لجعل مجتمعاتنا تتراجع بهذا الشكل المريع وتتخلى عن مدنيتها لصالح تشوه جمالي وأخلاقي ومجتمعي وحضاري.
تدل وسائل التواصل على حالة المجتمع، فالانحدار السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري والفني الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية حالياً يظهره بشكل جلي المحتوي الذي تقدمه وسائل التواصل، كما أن الآثار السلبية التي نتجت عن هزيمة الربيع العربي واليأس الذي تبع الهزيمة والاستبداد والفساد المضاعف الذي اعتمدته الأنظمة القديمة والحديثة جعل الناس تعيش في حالة اغتراب وعزلة نفسية مهولة لم تجد لها مخرجاً سوى هذا العالم الافتراضي المتمثل في وسائل التواصل التي شكلت مجتمعات افتراضية جذبت إليها أعداداً مهولة من العرب غير القادرين على الفعل الحقيقي في قلب المجتمع فوجدوا في الافتراض مكاناً مناسباً للإجابة عن أسئلة ملحة لكن للأسف فإن غالبية الإجابات تؤكد بديهياتهم ومسلماتهم في المحتوى الذي تقدمه هذه الوسائل، أما المحتوى الصادم والمخالف لتلك المسلمات فهو محتوى فقير في المتابعة، وهو ما جعل كثير من النخب العربية تعطي لمتابعيها ما يريدونه لا ما يصدمهم، ذلك أن هذه النخب تحول إلى افتراضية أيضاً بعد هزيمة الربيع العربي.