خاص – حسن العلي/دير الزور
الأطفال وقود الحروب منذ قديم الزمان… منهم من مات تحت حوافر الجياد، ومنهم من لقي حتفه برصاص طائش، ومنهم من جنّدته الأطراف المتقاتلة، خصوصاً في الحروب الأهلية… ومنهم من جرّتهم الحروب إلى العمل في التهريب، تماماً كما يجري لأطفال سوريين بين ضفتي الفرات.
هذا ليس استهلالاً تاريخياً، إنما هو توصيف موجز لسيرة منطقة من سوريا، تحوّل أطفالها إلى “رجال عصابات” على الطريقة المكسيكية. فماء الفرات يفصل بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شرق النهر، وسيطرة القوات الحكومية في غربه. وبحسب المواطن سامي الأحمد، هذا الفصل ينشط عمليات التهريب عبر النهر، “وغالبًا ما يصبّ هذا النشاط في صالح مجموعات مسلحة موجودة على الأرض، خصوصاً ’الدفاع الوطني‘”.
والأحمد من سكان بلدة الطيانة في محافظة دير الزور، اضطر إلى إرسال ابنيه البالغين 15 و16عامًا للعمل في الحقول النفطية في البادية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة في المنطقة، “وفوجئت بعد فترة بأن ابني الكبير أحمد يعمل مع أحد كبار المهربين، بالتنسيق مع مجموعات “الدفاع الوطني”، لتهريب المحروقات والمواد الغذائية من مناطق قوات سوريا الديموقراطية (قسد) إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية”.
مات أحمد!
تستغل المجموعات المسلحة الأوضاع المادية المتردّية للأطفال، وقلة فرص العمل المتاحة أمامهم، لاستخدامهم في عمليات التهريب. فيعمل الأطفال في زوارق صغيرة يجرون وراءهم براميل أو شحنات معبأة بالمازوت أو أنواع أخرى من المحروقات، كما يتم استخدامهم في تهريب المواد الغذائية بنقلها في تلك الزوارق الصغيرة.
يقول الأحمد لـ”963+”: “اعترضت على عمل أحمد، لكن مشغله أسكتني بسخائه، وبالتأكيد أن ما يفعله آمن نظرًا إلى التنسيق القائم مع ’الدفاع الوطني‘”. بسبب فقره الشديد، صمت الأحمد من دون أن تتوقف نوبات خوفه. فهذا العمل يشكل خطرًا كبيرًا على حياة الأطفال، إذ غالبًا ما تندلع اشتباكات بين المجموعات المسلحة التي يعمل الأطفال لصالحها والجهات الأمنية والعسكرية في الطرف المقابل، فيقع الأطفال ضحايا.
“هذا بالضبط ما حصل لأحمد”… يقولها الأحمد، ويصمت، فتنهمر دموعه غزيرة جداً. في إحدى الليالي، خرج أحمد لتهريب المازوت إلى محطة “الدفاع الوطني” غرب الفرات. اندلعت اشتباكات بين “الدفاع الوطني” ومسلحين على ضفتي النهر، فلقي أحمد حتفه برصاصة طائشة. وبعد ثلاثة أيام، عثروا على جثته طافية على وجه الفرات.
ظاهرة مقلقة متزايدة
“أحمد مثال ونموذج، وعدد الأطفال الذين فقدناهم على جبهة التهريب كبير جداً”، كما يقول سعد العثمان، الناشط المحلي من سكان دير الزور. فتجنيد الأطفال في المنطقة تزايد بشكل كبير ومُلحوظ في الآونة الأخيرة.
لماذا؟ يقول العثمان لـ”963+” مذكراً بما قاله الإمام علي بن أبي طالب يوماً: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته… الناس يريدون قتل الفقر، فيقتلهم”. ففي الظروف الاقتصادية القاسية، إن خيّرت الطفل بين المدرسة والتهريب، لاختار التهريب من دون تردد.
سجل ناشطون عشرات الاشتباكات بين المجموعات المسلحة العاملة في التهريب وبين العناصر الأمنية التي تحاول مكافحة هذه الظاهرة. وأدت تلك الاشتباكات إلى مقتل نحو 45 شخصًا منذ بداية العام الجاري، أغلبيتهم من الأطفال، بحسب إحصائيات ناشطين في دير الزور، إضافة إلى إصابة عدد كبير منهم، ما أثر في نفسياتهم واحتياجاتهم الاجتماعية وحرمانهم من طفولتهم.
ويضيف العثمان، أن الآثار النفسية والاجتماعية على الأطفال العاملين في التهريب عديدة أبرزها: “فقدان الأطفال أعضاء من أجسامهم نتيجة الإصابات، ما يؤثر على نفسياتهم واحتياجاتهم الاجتماعية، إضافة إلى حرمان الأطفال من طفولتهم وحقوقهم الأساسية كالتعليم واللعب، وانعكاس هذه التجربة السلبية على مكانتهم الاجتماعية وإدماجهم في المجتمع مستقبلاً”.
إغراء المال
يتراوح العمر الوسطي للأطفال المشاركين في عمليات التهريب بين 15 و18 عاماً، “حيث يتمكن الأطفال في هذا العمر من ركوب الزوارق والسباحة عبر الفرات”، بحسب ناشطين في دير الزور، يضيفون لـ”963+”: “يجند سماسرة تابعون للفصائل المسلحة هؤلاء الأطفال، ويدفعون لأهاليهم أجوراً مقابل مشاركتهم في عمليات التهريب”.
فعلى سبيل المثال، يحصل الطفل على مبلغ يصل إلى 10,000 ليرة سورية (67 سنتاً أميركياً) عن تهريب كل برميل من المواد النفطية، وهذا مبلغ جيد بالنسبة إلى أطفال عاطلين عن العمل. علينا أن نتذكر أن الأحمد، ابن بلدة الطيانة، اعترف بأنه خسر ابنه طمعاً بما كان يجنيه من مال في التهريب!
هذا الرقم ليس ثابتاً، فأجور الأطفال تختلف بحسب طبيعة البضائع المهربة: المواد النفطية هي الأغلى لأنها تهرب بكميات كبيرة، بينما ينخفض الأجر على تهريب المواد الغذائية، “ويقبض الأطفال أجورهم في العادة من سماسرة التهريب بعد وصول الحمولة المهربة إلى الطرف الثاني”، كما يقول العثمان.
تتنافس جماعات مسلحة عدة على تجنيد الأطفال، أبرزها فصائل “الدفاع الوطني” التي تُعد الأقوى في عمليات التهريب، إضافة إلى “أسود الشرقية” و”القاطرجي” والفرقة الرابعة والحرس الثوري الإيراني. ويضيف ناشطون رفضوا الإفصاح عن اسمهم: “لا ننسى أن تجاراً يهرّبون على حسابهم الخاص، وهؤلاء يدفعون المبالغ الأكبر للأطفال المشاركين في عمليات التهريب”.
ما العمل؟
بحسب العثمان، يكمن حلّ هذه المسألة “القاتلة” في توفير فرص عمل بديلة، وبرامج تدريبية للأطفال والشباب في المنطقة على العمل المهني والتقني، “علّ هذا يصرف أنظارهم عن ركوب الخطر سعياً وراء لقمة العيش”.
ويضيف: “على المنظمات الأهلية في دير الزور ومحيطها تعزيز الرقابة الاجتماعية على الأطفال والشباب، ونشر التوعية بين العائلات”، مؤكداً أن المتابعة الأمنية المتخصصة من قوى الأمر الواقع تمنع استغلال الأطفال في أنشطة التهريب.
في هذا الإطار، يقول محمد العبود، مدير منظمة “إنصاف للتنمية” في دير الزور لـ”963+”: “ننسق مع منظمات دولية مثل اليونيسف ومنظمة العمل الدولية، ومع منظمات محلية وإقليمية أخرى ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا للحد من هذه الآفة الاجتماعية”.
يدرج العثمان تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال الذين تعرضوا لهذه التجربة، ورفع الوعي بين أولياء الأمور حول مخاطر عمالة الأطفال في التهريب، وتشديد العقوبات على المتورطين في استغلال الأطفال في هذه الأنشطة، بين الحلول المقترحة للحد من تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية المخيفة. ويضيف العبود: “إن القضاء على أسوأ أشكال عمل الأطفال في سوريا يمر ببرامج التوعية والرصد والمناصرة، التي تحمي الأطفال من الاستغلال، من خلال برامج دعم الأسر المتضررة، وإعداد الاستراتيجيات وسن التشريعات اللازمة لحماية الأطفال من الاستغلال”.
لكن… يختم العبود: “تبقى هذه الجهود المبذولة كلها محدودةً، تحتاج إلى دعم دولي أكبر لمواجهة ظاهرة تسرق منا زهرة شباب مجتمعنا”.