مضى عامان، وما زال عزيز الصالح لا يصدّق أن ابنه هيثم قد “مات”. يجلس بعينين شاخصتين على صورة ابنه الذي عجّل في الرحيل، وهو ما زال في الخامسة عشرة من عمره. يتأوه: “ليتنا بقينا نازحين، وما عدنا إلى هذا الموت”.
كان صباحاً ربيعياً ذات يوم من أيام آذار/مارس 2022، حينما خرج هيثم (15 عاماً) من المنزل برفقة صاحبه في الحي الشرقي بدير الزور للهو قليلاً. ابتعدوا عن الحي، وعثروا على قذيفة من مخلفات الحرب. قادهم الطيش إلى اللهو بها، ومحاولة تفكيكها لاستخراج النحاس منها وبيعه. يقول الصالح لـ “963+”: “انفجرت بهم القذيفة، فمات هيثم وأصيب ثلاثة آخرون بجراح. الله يجازي من كان سبباً في مآسينا”.
وهيثم ليس الوحيد الذي غادر الحياة بحادث مؤسف من هذا النوع. ففي المناطق السورية، تحصد مخلفات الحرب والألغام أرواح الناس يومياً على الرغم من انتهاء المعارك. لكن في دير الزور، التي شهدت معارك ضارية بين القوات الحكومية وفصائل المعارضة المسلحة أولاً، ثم بين القوات الحكومية وتنظيم “داعش” المصنف إرهابياً لدى الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية أخرى، الألغام والقنابل العنقودية منتشرة في كل مكان، يتجول سكانها في الشوارع والأحياء بحذر شديد، خوفاً من لغم ينفجر تحت قدم أحدهم من دون سابق إنذار، أو من قذيفة غير منفجرة يحلو لها أن تنهي حياتهم.
مضى زمنٌ كان الموت بهذه المخلفات “القاتلة” يومياً، فالمعارك الكثيرة حوّلت مناطق دير الزور وتدمر وريف حمص الشرقي وحماة إلى خراب مزروع بأدواتها القاتلة. وعلى الرغم من توقف صوت المدفع في هذه المناطق، “فإن ما تركه المتحاربون من ألغام ومقذوفات غير منفجرة تحصد أرواح المدنيين، وخصوصاً الأطفال”، كما يقول صالح النجرس، الناشط المدني في مدينة دير الزور.
ويضيف لـ”963+”: “منذ بداية العام الجاري وحتى اليوم، فقدنا أكثر من 340 شخصًا، معظمهم من المدنيين في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وفقدنا في تدمر 128 شخصاً، بين مدني وعسكري، ولقي أكثر من 92 شخصاً حتفهم في حمص”.
ويقول الدكتور مشاري الحزوم، المدير العام لمشفى هجين بريف دير الزور الشرقي لـ “963+”، إن مشافي محافظة دير الزور استقبلت 183 جريحاً نتيجة انفجار مخلفات الحروب والألغام، “بينهم نحو 30 شخصًا فقدوا عضواً من أعضائهم”، على الرغم من الحملات التحذيرية والإرشادية التي قدمها ناشطون مدنيون، ومسؤولون في فصائل موجودة ميدانياً في هذه المناطق،”فكنا نحث الأهالي دائمًا على تحذير أطفالهم من الاقتراب من أي جسم غريب أو لمسه، بسبب كثرة المتفجرات والمخلفات الحربية هنا، لأن المنطقة هذه كانت آخر معاقل “داعش” قبل اندحاره”، كما يقول النجرس.
إلا أن هذه المشكلة المأساوية ليست مقتصرة على هذه المنطقة وحدها. ففي محافظة حمص، تُعد منطقة ريف حمص الشرقي من أكثر المناطق تضررًا بانتشار الألغام والمخلفات الحربية. فبين عامي 2011 و2017، شهدت المنطقة اشتباكات عنيفة بين القوات الحكومية وفصائل المعارضة المسلحة، وتتركز الألغام بشكل كبير في المناطق الحدودية مع محافظة حماة. وفي محافظة حماة، تلبيسة وأطرافها الجنوبية الشرقية من أكثر المناطق تلغيماً، خصوصاً في الأراضي الزراعية والمناطق المحيطة بالطرق الرئيسية والفرعية.
لمحافظة الرقة وضع خاص، فحين سيطر عليها “داعش”، زرع آلاف الألغام في مداخل المدينة وأطرافها والطرق الرئيسية، وفي المناطق السكنية والأحياء الشعبية.
رايات حزن
بين الدمعة والأخرى، يؤكد عزيز الصالح إنه حذر ابنه كثيراً، “حتى أنني نهرته مرات عدة… لكن قدره أعاده من مذلة اللجوء إلى ظلام القبر… وكنت أرجو أن يكون آخر من تقتله قذائف الحرب المرمية في الشوارع”، مطالباً بالحزم في التعامل مع هذه المسألة “القاتلة”. يقول: “كأنك تنام في سرير عدوّك!”.
يبدو أن ابنه الصالح لم يكن الأخير، ولن يكون. يقول علي الزعيم، العضو في فرقة الهندسة العسكرية التابعة لـ “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في دير الزور، لـ”963+”: “إن أغلبية المقذوفات الحربية التي لم تنفجر في أثناء المعارك معرضة بعد للانفجار، في أي لحظة، خصوصاً عند العبث بها”، موكداً وجود أنواع مختلفة من الألغام المزروعة في المنطقة، من ألغام ضد الأفراد وأخرى ضد الآليات، “وهذا زرع شيطاني لا ينبت إلا رايات الحزن السوداء”.
نداءات الاستغاثة كثيرة، لكن الجهود بطيئة بسبب التحديات الأمنية والإمكانات المحدودة. يقول الزعيم إن فرق الهندسة العسكرية تواجه عوائق كثيرة في عمليات نزع الألغام، “أبرزها نقص أدوات الحماية اللازمة، وتركيب الألغام بطرق ذكية تؤدي إلى انفجار ألغام أخرى عند محاولة تفكيكها، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى بعض الألغام المزروعة في أماكن ضيقة”.
وفرق الهندسة العسكرية هذه فقدت الكثير من عناصرها حين حاولوا تفكيك ألغام من دون تخطيط جيد، “فهي تنفجر لحظة لمسها أو تحريكها”، كما يقول.
لذلك، تعلوا الأصوات مناشدة الجهات المعنية في كل مناطق سوريا زيادة عدد كوادر الهندسة العسكرية ودعمهم بالآليات والمعدات اللازمة، وإعداد خطط دقيقة للتخلص من الألغام ومخلفات الحروب من قذائف غير منفجرة وعبوات ناسفة ما زالت ناشطة، تهدد السلامة العامة.
حرب أخرى
في مشفى أبو حمام بريف دير الزور الشرقي، ثمة قسم متخصص في علاج جرحى الألغام والقذائف غير المنفجرة من مخلفات الحرب، وتركيب أطراف صناعية لمن فقدوا أحد أطرافهم. يقول الحزوم إن هذا القسم يركب أطرافاً صناعية “مقابل مبالغ ضئيلة جدًا، فالناس هنا لا قدرة لها على تحمّل التكاليف العالية، إلا أن إمكانيات هذا القسم محدودة، وهي تتضاءل يوماً بعد يوم، ما يزيد معاناة الجرحى، في غياب الدعم الحكومي والخدمات المتخصصة لمساعدتهم على التأقلم مع إصاباتهم والتعافي منها”، وهذا برأيه يشكل تحديًا كبيرًا أمام محاولات إعادة الإعمار والتنمية في المناطق المتضررة من الحرب في دير الزور، حيث لا مؤسسات حكومية تهتم بمستقبل الجرحى والمصابين، “فيعتمدون على ما تيسّر من دعم آت من منظمات محلية في المحافظة”.
الدعوة “عامة” في دير الزور، وفي مناطق أخرى، إلى المعنيين بضرورة تخصيص الموارد اللازمة لدعم هؤلاء الجرحى وتوفير خدمات طبية وتأهيلية متخصصة، “مع التركيز على أهمية تعزيز الشراكات مع المنظمات الدولية لتوفير المزيد من المساعدات والبرامج الداعمة لهذه الفئة المتضررة من آثار الحرب”، كما يختم الحزوم.
فعلياً، إنها حرب أخرى، يتساقط ضحاياها كل يوم، بصمت مطبق بعد الدوي المفجع. يقول الزعيم: “المطلوب مساعدات أممية ودولية لا تقتصر على تدريب كوادر محلية على طرق نزع الألغام، وتوزيع نشرات توعوية على السكان، فهذا ليس حلاً جذريًا للمشكلة”.
إن الحاجة ملحة لتكثيف الجهود وتوفير الموارد اللازمة لإنهاء هذه الحرب، “والأمل في عودة الناس الآمنة إلى بيوتهم واستقرارهم فيها مرهون بتحرير المناطق المختلفة من الألغام والقذائف غير المنفجرة”، كما يقول النجرس، طالباً من المنظمات الدولية والمحلية والجهات المعنية إيلاء هذه المسألة الأولوية القصوى، “كي لا نستفيق في كل صباح على هيثم الصالح جديد”.