خاص – عمار جلو/عينتاب
تشهد ولاية قيصري بوسط تركيا في الأيام القليلة الماضية أعمال عنف تبعها ترويع وتخريب ضد اللاجئين السوريين وممتلكاتهم، بعد مزاعم بتحرش سوري بطفلة تركية في محلة دانشمنت غازي بمدينة قيصري، تبيّن لاحقاً أنها سورية الجنسية. وقد ردّ محللون هذه الموجة إلى تصاعد في خطاب الكراهية في تركيا ضد السوريين، “بل حتى ضد العرب عموماً، وهذا خطاب ساهم في خلق حال من التعبئة العامة في وفي حشد رأي عام عريض في المجتمع التركي ضد السوريين”، كمل يقول المحامي والناشط الحقوقي غزوان قرنقل لـ”963+”.
ففي هجوم شنه مجموعة من الأتراك، تقودهم مشاعر عنصرية ضد السوريين، على منزل في منطقة سيريك بمدينة أنطاليا الثلاثاء، لقي الفتى السوري حمود حمدان النايف (17 عاماً) حتفه بعد تعرّضه للضرب والطعن، وأصيب 8 آخرون بجروح. وهذا حادث لا يشذ عن موجة متجددة من العنف العنصري ضد اللاجئين السوريين في تركيا، شملت ولايات تركية عدة، سجّلت فيها حوادث اعتداء بالضرب والطعن، ورشق منازل السوريين بالحجارة، وتكسير ممتلكاتهم وحرقها. كما استخدم المعتدون جرافات لسحق دراجات السوريين النارية وسياراتهم، بحسب موقع “ميدل إيست آي”.
لم أعرف أحداً منهم
لا يبرّئ قرنفل كل السوريين في تركيا من أي مخالفة أو انتهاك، أو جنايات وجرائم، “فهذه طبيعة المجتمعات البشرية، وهي لا تخلو من شريحة تخطئ أو تسلك سلوكاً مسيئاً، أو تتجاوز على القانون. لكن هذا ليس وقفاً على السوريين، إنما هو صفة عامة بين المجتمعات البشرية كلها، وأخطر ما في الأمر حصر ردات الفعل في السوريين، فذلك يقود، بكل آسف، إلى حملة ترويع تطال المجتمع السوري الذي ما أتى إلى تركيا إلا طلباً للأمان، وتسلب اللاجئين كل شعور بالطمأنينة والاستقرار واليقين تجاه مستقبلهم”.
التزمت الحكومة التركية الصمت تجاه ما يقترف ضد اللاجئين السوريين من جرائم عنصرية في تركيا. إلا أن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا أعلن عن توقيف 474 شخصاً على خلفية أحداث قيصري. وبحسبه، “لدى 285 من الموقوفين سجلات جنائية”، في إشارة إلى ما تم تداوله عن عملية نقل هؤلاء من مناطق مجهولة لإحداث فوضى في المنطقة، وهذا ما لا يستبعده عبد القادر الفليفل، الناشط السياسي المقيم في مدينة قيصري. يقول لـ”963+”: “وقعت الأحداث أمام منزل كنت أقطنه لمدة ست سنوات، لكنني لم أتعرف على أحد من مثيري الشغب هناك”.
ويرفض الفليفل ربط ما تعرض له السوريون في المدينة بـ”ادعاء التحرش”، ويقول: “القصة بدأت بتصوير شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، يبلغ من العمر 25 عاماً، لكنه بعقل 8 أعوام، يحتضن خوفاً وعطفاً ابنة عمه البالغة 8 أعوام، بعد التهجم عليهما حين دخلا بازار السبت في المحلة، وإجبارهما على اللجوء إلى المغاسل العامة للاحتماء من المهاجمين. وصورهما بعض الأتراك ونشروا الفيديو مدّعين أنه شاب سوري يعتدي على طفلة تركية”.
تناثر الشرر
ولّد تزامنُ أحداث قيصري مع الكلام عن تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق ردة فعل شعبية أخذ شكل تظاهرات مناهضة للوجود التركي في شمالي سوريا، قتل خلالها 7 أشخاص معظمهم برصاصِ القوات التركية في مدينة عفرين، حيث مقر الوالي التركي، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
خلال هذه التظاهرات، أنزلت الأعلام التركية عن بعض المراكز والأماكن العامة في شمالي سوريا، وتعرض بعضهم لأحد هذه الأعلام بالإهانة، ما فجر غضباً تركياً شعبياً ورسمياً، توسعت بموجبه أعمال العنف والاعتداء على اللاجئين السوريين وممتلكاتهم لتعم مدناً تركية عدة.
وأعلن وزير العدل التركي يلماز تونج عن فتح تحقيق بشأن “حادثة العلم”، فيما أشارت وزارة الخارجية التركية إلى عدم صوابية استغلال حوادث قيصري، وإلى إطلاق “إجراءات عدلية بحق المتورطين بها كأداة للاستفزاز ’خارج حدودنا‘”.
على الرغم من الهدوء الحذر السائد اليوم، وبعد تصّدر فصائل موالية لتركيا عملية ضبط الشارع في شمالي سوريا، إلى جانب خطابات تهدئة تركية رسمية “مناهضة للعنف والعنصرية”، فإن الحلول الجذرية لمعالجة هذا الخطاب والجرائم المتولدة عنه لا تبدو واردة حالياً، خصوصاً بعدما أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحميل المعارضة مسؤولية الأحداث الأخيرة بقوله: “إن خطاب المعارضة المسموم هو أحد أسباب الأحداث المحزنة التي تسببت بها مجموعة صغيرة في قيصري”. وهذا كفيل بإدخال خطاب الكراهية والعنصرية تجاه اللاجئين السوريين بنداً ضمن بنود التناكف السياسي بين أغلبية الأحزاب التركية، وبتحويل معاناة اللاجئين فرس سبق إلى صوت الناخب التركي.
لكن، هذا ليس بطارئ ولا بجديد. يقول قرنفل إن القوى السياسية التركية مستمرة دائماً في الاستثمار السياسي لملف اللاجئين السوريين، “سواء من جانب القوى التي تتصدر مؤسسات السلطة حالياً، أو تلك التي تقف على ضفة المعارضة. فورقة اللاجئين قوية في الصراع السياسي والانتخابي بتركيا، والمشكلة أن السوري وحده من يدفع ثمن هذا الاستثمار السياسي، من دمه ومن أمنه وأمواله”.
ويضيف: “بات معيباً جداً هذا التحريض ’المسعور‘ على اللاجئ السوري، وهذا الاستثمار في دمه وحلاله، من أي جهة أتى، ويجب أن تشكل أحداث قيصري الأخيرة رافعة لطي صفحته إلى الأبد. فما جرى من أحداث، والتي يمكن أن تتطور في لحظة ما إلى ما لا يحمد عقباه، لا تصب في مصلحة اللاجئين السوريين، وهم الطرف الأضعف، ولا في مصلحة الاستقرار الاجتماعي للمجتمع التركي”.
أذىً مسكوت عنه
لكن تبقى هذه الأمنيات غيباً، قد لا يتحقق. فالرعب يعم مجتمع اللاجئين السوريين في تركيا، وهو ما يمنعهم من التعبير عن هواجسهم لوسائل الإعلام، كما يقول الفليفل، مضيفاً: “لن تجد من يتحدث عن أضرار جسدية أو مادية طالته جراء أحداث دانشمنت غازي”، لافتاً إلى عمليات تخريب طالت نحو 120 سيارة، و50 إلى 60 متجراً، مملوكة كلها لسوريين في المحلة.
ويتابع الفليفل: “اجتمعنا الاثنين مطولاً برئيس حزب العمال التركي (Emek Partisi)، الذي قدم إلى المدينة للوقوف على الأحداث الأخيرة. لكن، على الرغم من محاولاتنا الحثيثة لجمعه بأهالي الضحية القاصر، لكنهم رفضوا بسبب خوف جماعي من الحديث عما جرى”.
غالباً ما يكون اللاجئون السوريون كبش فداء للمشاكل الاقتصادية في تركيا، بحسب ميدل إيست آي، بما في ذلك ارتفاع نسب التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية، إضافة إلى لومهم في قضايا مجتمعية مختلفة، كالتحرش الجنسي والنهب، لا سيما في أعقاب الزلزال المميت الذي وقع في 6 شباط/فبراير 2023. وعليه، ترحّل الحكومة التركية آلاف السوريين قسراً إلى مناطق في شمالي سوريا خاضعة لسيطرة القوات التركية لتخفيف الضغط الداخلي، كما تسعى أنقرة إلى إعادة مليون إلى مليون ونصف سوري، ضمن استراتيجية أوسع ربما تشمل إعادة العلاقات الرسمية مع دمشق.
أخيراً، يربط قرنفل الوضع الاقتصادي والاحتقان المجتمعي الناجم عنه في تركيا بخطاب الكراهية والتحريض العنصري، “ويضاف ذلك إلى التراخي الذي تمارسه مؤسسات السلطة مع هذا الخطاب العنصري، وإلى تطورات الوضع السياسي والاستدارة الكاملة للسياسة التركية، والالتفات نحو تطبيع العلاقات مع حكومة دمشق. فهذا يشجع الآخرين على تصوير الأمور بأنها ذاهبة باتجاه التسوية في سوريا، حيث لا قتل ولا ضرب ولا اعتقالات. وهذا الأمر لعب دوراً مهماً في تأجيج السعار العنصري الأخير”.