“في سوريا، كانت الموسيقا دائماً أكثر من فن. كانت فعل بقاء، وصوتاً خفياً للمقاومة، وإيقاعاً لخفقات قلوب لم تتوقف عن الأمل”، بهذه الجملة يمكن تلخيص مسيرة الموسيقي السوري سيمون مريش، الذي لا يرى الفن ترفاً، بل ضرورة. منذ نشأته في دمشق عام 1972، قاد مريش تجربة فريدة في عالم الموسيقى، جاعلاً من الإيقاع لغةً تتحدى الصمت المفروض، ومزجاً بين الأنماط الغربية والشرقية، الإلكترونية والتقليدية، بما يتجاوز المألوف، ويعيد تشكيل الصوت بوصفه توثيقاً سياسياً واجتماعياً.
شارك مريش في مهرجانات عالمية مثل ICCR Jazz Festival في الهند، وقدم عروضاً في ألمانيا والتشيك وفرنسا وهولندا وبريطانيا، إضافة إلى مشاركاته في العالم العربي من بيروت إلى الجزائر ومسقط ودبي. أعماله المسرحية، مثل “أدرينالين كلاسيك”، “هستيريا” و”ستاتيكو” الفائزة بمهرجان قرطاج، شكّلت محطات فارقة في توثيق الوجع السوري بلغة موسيقية خالصة.
في هذا الحوار الخاص مع “963+”، يفتح مريش قلبه ليتحدث عن الإبداع في ظل القمع، والموسيقا كأداة مقاومة، والخوف من تسليع الحرية، وأهمية بناء هوية صوتية جديدة لسوريا ما بعد النظام.
اقرأ أيضاً: جديد الدراما السوريّة “نبلاء دمشق”.. مسلسل ينبض بالواقع من دون تجميل – 963+
قلت يوماً إن “الإيقاع هو خفقان الروح”. كيف تغيّر هذا الخفقان بعد سقوط النظام؟ وهل ما كنت تعزفه سابقًا كان شكلًا من أشكال المقاومة؟
الناس يسألونني كثيراً عن معنى الإيقاع، وهو ببساطة النموذج المتكرر في أي نوع موسيقي؛ بل هو القلب النابض للموسيقا. الإيقاع كان دائماً بالنسبة لي شكلًا من أشكال التعبير، وضمناً، من أشكال المقاومة. أنا أدرّس في المعهد العالي للموسيقا منذ 25 سنة، وأعتبر هذا الفعل بحد ذاته مقاومة ثقافية. نحن في سوريا نرى أن الموسيقا ليست كماليات، بل مكون أساسي في التربية. ولخلق مجتمع متوازن، لا بد من الاهتمام بها.
كفنان عاش فترات طويلة في ظل القمع، كيف تصف العلاقة بين القيد السياسي والإبداع؟ وهل ترى أن الحرية السياسية اليوم ستنعكس مباشرة على الفن في سوريا؟
لا أريد أن أبدو متشائماً، لكننا أمام أولويات إنسانية ملحّة: الفقر، التشرد، وإعادة المهجّرين. الفن يأتي لاحقاً، لكنه لا يقل أهمية. برأيي، الفن يجب أن يكون سلاح مقاومة مثل أي سلاح آخر، وسيلة لإثبات أننا ما زلنا أحياء. الفن يرسم مستقبل سوريا، لا شك في ذلك، وهذه الأرض ليست غريبة عن الفن… لا يمكن تخيّل بلد بلا مسرح أو موسيقا أو رقص.
أنت معروف بابتكار آلات إيقاعية من مواد بسيطة، نوع من “الفن المقاوم” ربما. هل كانت هذه البساطة خياراً أم ضرورة؟
كانت ضرورة. الواقع المادي فرض عليّ أن أصنع بنفسي هذه الآلات، فاستيرادها كان صعباً بسبب سياسات النظام السابق. الموسيقي دائماً يجد طريقة ليعبّر، مهما كانت الظروف.
عملك كمعلّم لأجيال جديدة من العازفين، كيف ترى دوره اليوم في بناء هوية موسيقية جديدة لسوريا ما بعد النظام؟
لقد درّست أعداداً كبيرة من الطلاب الذين أنجزوا مشاريع موسيقية مهمة داخل سوريا وخارجها. اليوم، البيئة باتت أسهل لتوجيه هذا الجيل. في السابق، فُرض التهميش على فرق كثيرة، مثل “راديو كلنا سوا” التي كانت تسلط الضوء على الظلم وغياب الحرية. الآن، هناك فرصة حقيقية لبناء هوية موسيقية جديدة وحرة.
فرقتك “بيركومانيا” تميزت ببنية جماعية غير هرمية. هل كان ذلك رداً على نظام استبدادي؟ وهل الفن الجماعي اليوم يمكن أن يعيد تشكيل المجتمع السوري؟
صحيح أنها غير هرمية، لكن لم تكن مقصودة كرد فعل سياسي. كنا نتبادل الأدوار جميعاً، ونعمل بلا قائد. أنا أؤمن أن الفن الجماعي اليوم هو السبيل لإعادة تشكيل المجتمع السوري، وهو ما مارسته أيضاً خلال عملي مع الفنان سميح شقير، الذي احترمته لابتعاده عن الطروحات السطحية. بعد مغادرته سوريا، بقينا على تواصل. لكن لكي تنجح هذه الجماعات الفنية، يجب ألا تنتمي لأي فكر ديني أو سياسي محدد.
هل هناك خطر أن يتحول الفن بعد سقوط النظام إلى مجرّد احتفال بالحرية، بدلاً من توظيفها بشكل نقدي؟
لا أعتقد أن هناك خطراً حقيقياً. الفن لا يموت، وقد يتعرض للقمع أو التهميش، لكنه باقٍ طالما هناك من يؤمن به. الخطر الوحيد هو أن يفقد الفنان إيمانه بفنه، عندها فقط يصبح الاحتفال حرية شكلية، ويتحوّل الفن إلى استسهال.
اقرأ أيضاً: “العدالة الانتقالية علاج لانتهاكات النظام”.. فعالية توثيقية حقوقية في مصياف – 963+
رأيك بالمظاهر التي رافقت الحفلات الموسيقية مؤخراً؟ هناك من عاد واحتفل، وهناك من مُنع أو هوجم.
نعم، هناك من عاد واحتفل وساهم بإحياء الفن، لكن في المقابل، حصلت هجمات على مسارح وحفلات. أعداء الموسيقا نوعان: من يرفضها بدافع ديني ويعتبرها حرامًا، وهؤلاء نختلف معهم تماماً. وهناك من يربطها بسلوكيات لا أخلاقية، وهو أمر نرفضه كليًا. الموسيقيون يرفضون اختزال الموسيقا في أماكن غير لائقة، وعلينا أن نعرّف الناس على الموسيقا التي ترفع السوية الإنسانية، لا تهبط بها.
برأيك، هل يجب على الفنان السوري اليوم أن يكون سياسياً؟ وهل الإيقاع قادر على التعبير عن مفاهيم مثل العدالة والمصالحة؟
الفنان السوري يجب أن يبتعد عن السياسة، لأنها غالباً مرتبطة بالانتماء إلى أحزاب ومجموعات. الانتماء يفقد الفنان جزءًا من حريته. إن أراد أن يكون سياسياً، فليكن مثل غاندي. الإيقاع قادر تماماً على التعبير عن العدالة، المصالحة، وحتى الغضب. الموسيقا تتجاوز الكلام… إنها تعبيرٌ عن الحياة ذاتها.